تقول الإحصاءات أن عدد زوار معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الخامسة والخمسين بلغ أربعة ملايين زائر. وشارك في المعرض 1200 دار نشر من 70 دولة. ويوما بعد يوم؛ وعلى أرض الواقع في المعرض، أجلس أراقب جموع المتوافدين على المكان. أفرح لتنوع مشاربهم وأعمارهم وتوجهاتهم وأحزن عندما أجد بعضهم يكتفي بالفرجة ويمتنع عن الشراء لأسباب كثيرة ليست محور حديثي اليوم.
في دار النشر التي بها كتبي تتوافد على مجموعات من الفتيات والشباب يسألونني كما هي عادة من ضل طريقه عن مكان دار نشر فأدلهم إن استطعت أو أبحث معهم عبر صفحات الإنترنت أو أطلب منهم التوجه لشباب المتطوعين في السترات الصفراء فهم الأقدر على الإجابة بما يملكونه من معلومات مستفيضة. ما لفت انتباهي تكرار السؤال عن كاتب بعينه أو رواية يعرفون عنوانها ولا يعرفون اسم دار النشر التي أصدرتها. في إحدى المرات اصطحبت فتاة تسأل عن رواية لأدلها فوقفت مشدوهة من الزحام غير المسبوق وتهافت الشباب في سن المراهقة على اقتنائها خاصة الفتيات. أثار الشمهد فضولي خاصة بعدما انسلت من بين الجموع فتاة تحمل الرواية بين يديها وهي تلهث بابتسامة واسعة وتضمها إلى قلبها كمن وجد ضالته المنشودة بعد سنوات من التيه! صرخات وآهات وشهقات انتصار للحصول على نسخة من الرواية ثم حالة من الاستنفار للاسراع باللحاق بالكاتبة للحصول على التوقيع خارج القاعة.
عدت لمقري عازمة على البحث عن كنه الكاتبة والرواية. لم يبخل على محرك البحث جوجل بأي معلومة بل وأمدني بصفحات منها لقراءتها وليتني لم أفعل! تعليقي الوحيد أن هذا لا يعد عملا أدبيا بكلماته المبتذلة وركاكة أسلوبه وتفكك محتواه. بعد قليل انضمت لي صديقة بعد أن تعرضت لعشرات الأستفسارات عن مكان رواية أخرى وسؤال عن المؤلف وإن كانت تعرف كل أعماله! وعدنا فضولا لجوجل من جديد لنجد أن ما يكتبه خزعبلات وخرافات يصدقها الشباب وربما يجدون فيها ملاذا من واقع يرفضون التواجد فيه ومنجاة بالتشبث بالخوارق علها تنفي الحقيقية التي تغلف أيامهم.
واشتعل النقاش بيننا نحن الجالسين. القراءة حق للجميع لكن هل الكتابة كذلك؟ هل من حق أي شخص أن يكتب ما يعنّ له؟! من له شرف حمل لقب الكاتب؟ هل يترك الأمر على عواهنه أم يجب تقييده؟! من الحق كل شخص أن يكتب وأن يمسك بقلمه ويخط ما يشاء لكن ليس من حقه أن ينشر إلا بضوابط وإلا سيتحول المجتمع إلى فوضى فكرية. مسألة النشر ومشاركة الأفكار على العلن تحتاج لأسس تحكمها. امتلاك الفكرة لا يكفي لنشرها بين الناس وترويجها لتتهافت عليها العقول حتى يصبح من لم يحصل عليها ناقص الأهلية وسط مجتمعه.
بعضنا أيد الحرية المطلقة في الكتابة والنشر وأن ما عدا ذلك سيطرة مقيتة على الإبداع. أما البعض الآخر فذهب للتعقل في اختيار النصوص التي تنشر وتحوز على لقب الكتاب فالكتاب منتج كريم لا يصح أن يتساوى فيه الغث والسمين. وفرت وسائل التواصل الاجتماعي وصفحات النشر الإلكترونية قنوات يدلي فيها كل من هب ودب برأيه وأفكاره وحكاياته على مرأى ومسمع من الجميع لكن أن تتحول هذه العشوائية لكتب ذات مصداقية تزين الرفوف جنبا إلى جنب مع الأعمال الأدبية العريقة فهي إهانة للفكر ولسنوات من العمل الدءوب على تشكيله وصقله.
الكتابة مسئولية والكلمة أمانة وليس كل ما يخطر على البال قابل للمشاركة مع الآخرين. لا كتابة بدون قراءة فمن لا يقرأ لا يمكنه الكتابة وإن كتب فهي فورة مؤقتة كطبقة الرغوة الفوارة الناتجة عن المشروبات الغازية لحظية التأثير ولا تدوم فتختفي وتختفي معها لذة الطعم. عندما يطلب الجائع طعاما يسد رمقه يمكننا تقديم الغذاء النافع الذي يحتوي على العناصر اللازمة أو يمكن إسكات جوعه بطعام بائس لا طعم له ولا لون ولا رائحة فقط ليخمد رغبته وينهي طلبه. شتان بين الاثنين! إن اعتاد أكل الأخير سيصبح مبلغه من العلم وكل ذائقته وسيحرم من متعة الطعام وفائدته الحقيقية وبهذا نكون قد أضررنا به بدلا من أن ننفعه. قبل أن نشكو من انحدار ثقافة المجتمع وتدهور سلوكيات الشباب يجب أن نحميهم من أنفسهم. ليس المقصود الحجر على تفكيرهم أو فرض السيطرة الفكرية أو التوجيه أحادي التفكير لمساراتهم لكن المطلوب تنقية عقولهم من الشوائب كما تنقى التربة من الحشائش الضارة فليس كل أخضر مثمر!
التعليقات