وجدتني يوما في صحبة فتاة صغيرة. لا أعلم تحديدا أساقتها الأقدار لي أم ساقتني إليها لكننا التقينا دون سابق معرفة وجلسنا نتبادل أطراف الحديث لأكثر من ساعتين. تعجبت في البداية لطلاقتها في الحديث وهي لا تعرفني أو تعرف رفيقتي وفرق العمر بيننا هو فرق العمر بيني وبين ابني الصغير لا الكبير حتى! كنت برفقة صديقة أمريكية يدور حوارنا باللغة الإنجليزية وشاركتنا فيه الصغيرة بطلاقة منقطعة النظير.
فتاة جميلة المحيا والشخصية معتدة بنفسها لا يحجمها الخجل عن التنقل من حديث لآخر تملأ به فراغ الوقت. لم تتوقف عن الكلام وحكت لنا عن كل شيء وأي شيء. خاضت في كل المواضيع التي تشغل اهتمام من هم في مثل عمرها ولم يعجزها تعبير أو مفردة من مفردات اللغة الإنجليزية. قصت الحكايات وتبادلت النكات. تفكر باللغة الأخرى وتستخدم عاميتها بمهارة.
وكان السؤال الحتمي من رفيقتي الأمريكية أن تسألها في أي الولايات الأمريكية ولدت فلكنتها مزيج يصعب البت في منبعه. ضحكت الصغيرة وتهلهلت أساريرها كمن حاز على فوز عظيم ورفعت رأسها بفخر وقالت: لم أسافر يوما إلى أمريكا! لقد ولدت في مصر وأدرس في مدرسة مصرية لا دولية. رفعت صديقتي حاجبيها دهشة بينما اعتصر ألم مبهم قلبي رغم إقراري بجودة الأداء الماثل بين يدي. اعتدلت الصغيرة فرحة بشهادة أهل من أهل البلد الذي ذابت بين ربوعه ولم تزره يوما. أخبرتنا أن لغتها ولهجتها وطلاقتها بسبب مشاهدة الأفلام الأمريكية وقراءة الكتب ومتابعة وسائل التواصل الاجتماعي ومؤثريها من الشباب.
تأملتها والغصة تزداد. هذه الصغيرة نموذج صارخ لتأثير اللغة في بناء الهوية. هي أمريكية قلبا وقالبا. تفكر وتضحك وتداعب وتقرأ كما لو كانت بنتا من بناتها حتى لغة الشباب ولغة الشوارع تتقنها كأهلها. لقد نجحت بامتياز في تشكيل هوية جيل صاعد يحفظ اسماء مغنيها وأفلامها وأحيائها وطعامها.
سألتها بسذاجة وأنا أترقب إجابة أخشى سماعها وإن كنت أتوقعها ما إذا كانت تقرأ كتبا باللغة العربية طالما تدرس في مدرسة عادية بمناهج مصرية. أجابتني أنها لا تمسك إلا كتب المدرسة لتجتاز الامتحان وهذا هو كل ما تعرفه عن القراءة باللغة العربية. هل فكرت يوما في قراءة كتب عربية أخرى؟ ولماذا أفعل؟ لأنها لغتك؟ لا أعتبرها كذلك؛ الكتب مملة ومواضيعها ساذجة. يعاملونني كطفلة تنتظر حكاية البطة والفيل. لقد حاولت صدقيني!
فضت جلستنا وتفرقت بنا السبل وأنا أفكر فيها وفي جيل كامل مثلها انخلع من أصوله وارتبط ارتباطا وثيقا بأهل اللغة التي يعتنقها. نتشدق كثيرا بأهمية اللغة العربية وأنها الجذور التي تربط الأجيال الجديدة بتراثهم وبلادهم وتشكل هويتهم لكنني هأنذا أرى نتيجة خالصة لما خشيناه يوما. هذه الفتاة هي نتاج سنوات متصلة منذ ولادتها من الولاء التام لثقافة ولغة أجنبية. لا تحب لغتها ولا تعرف أي شيء عن بلادها إلا كلمات قليلة تخطها لتنجح في الامتحان وتنتقل من عام دراسي إلى آخر. أعلم أن هناك الكثير من الكتب العربية وأن الكتاب لم يألوا جهدا في الكتابة لكن ينقصنا عناصر جذب لهذا الجيل الذي يتجاوز سنوات عمره الفعلية. هذا الجيل يحتاج لدراسة مستفيضة حتى نتعلم كيف نصل إليه وكيف نجتذبه قبل أن تكتمل أجنحته ويطير بلا رجعة.
لم تحتج رفيقتي للسفر إلى الخارج لتتغرب. تغربت عقلا وفكرا وهوية وهي جالسة بيننا تحمل هاتفا محمولا متصلا بالإنترنت فقط لا غير. ليست دعوة مني بقطع وسائل الاتصال عن أبنائنا بل اختيار هذه الوسيلة العقيمة يعتبر جهلا وضعفا وقلة حيلة. يبدو أننا في معركة حقيقية كنا نرى شبحها في الأفق ونختلف فيما بيننا بين مؤمن ومنكر لكن هاهي حقيقة ونبتة شيطانية استهنا بها فتغلغلت بين أجيالنا. اللغة هوية ليست شعارا أجوف عفى عليه الزمن. يبحث الصغار عن نماذج للقوة والسيطرة ويتنصلون من كل ما يربطهم بالضعف والخنوع وقلة الحيلة. تمت هزيمتهم نفسيا قبل أن يخوضوا أية معارك. لقد أحيا اليهود العبرية يوما بعد أن تشتتوا بين البلاد واندرثت مصادرها. أعادوها من سباتها الطويل وفرضوها لغة تجمعهم وتوحدهم وتشكل مصدر فخرهم فلا يتكلمها غيرهم فهي هويتهم الدينية والوجودية.
وأكرر دوما أنني لست ضد تعلم اللغات ولا اتقانها. لا أعفي نفسي من المسئولية ولا أنفي أنني شخصيا أخوض حربا مع أبنائي لتعديل مسارهم الذي يجرفه تيار الواقع المحيط. لن نكل ولن نمل من القراءة والكتابة بالعربية فهي لغتنا وهويتنا.
التعليقات