كنت أتصفح يوما منشورات الفيسبوك التي توالت علي تلقائيا حتى توقفت عند إحداها ودققت النظر. كان حساب الصحفية البريطانية إيفون ريدلي التي وقعت في أسر طالبان لمدة أحد عشر يوما ثم عادت لبلدها ودرست الإسلام وانتهى بها الحال لاعتناقه. نشرت السيدة ريدلي عددا من الصور لرحلتها مع بعض المسلمين لزيارة قبر أول امرأة اسكتلندية تؤدي مناسك الحج. كانوا يقومون برحلة طويلة سيرا على الأقدام وسط جبال اسكتلندا العالية لزيارة قبرها والدعاء لها؛ هنا ترقد الليدي إيفيلين كوبوبلد. قبر صغير وحيد تحيطه الجبال والسهول الخضراء ترقد فيه امرأة اختارت أن تغرد خارج السرب وأن تفعل ما لم تفعله النساء في وقتها. قضبت حاجبي في دهشة. لقد عشت ثلاث سنوات في هذا البلد ولم أسمع عنها قط. من هي هذه السيدة التي اختارت أن تدفن في مكان منعزل أعلى الجبال ووجها في اتجاه قبلة المسلمين؟
عصف بي الفضول لأعرف المزيد عنها ولم أجد غير محرك البحث (جوجل) صديق من لا صديق له. ما إن كتبت اسمها حتى انهالت على المعلومات والصور التي رغم قلتها إلا أنها كانت كافية لاكتشاف عالمها البعيد.
ولدت الليدي إيفيلين سليلة العائلة البريطانية الأرستقراطية اسكتلندية الجذور في أواخر عام 1800. عاصرت عهد الملكة فيكتوريا وكان والدها رغم لقبه النبيل مغرما بالسفر والترحال واكتشاف بلاد تشرق عليها الشمس الدافئة. اصطحب الأب أسرته الصغيرة للجزائر ولمصر حيث أيام الشتاء التي كما أدفأت أجسامهم أدفأت قلب وذاكرة إيفيلين الصغيرة بحب الحضارة العربية. انطلقت مع أصدقائها وأحبت لغتهم ودينهم وساهمت المربيات في رسم صورة محببة إلى نفسها ظلت معها حتى بعد مغادرة الأراضي العربية والعودة لبلادها. كانت الوحيدة من بين إخوتها التي تأثرت بسحر الشرق وبهائه. لاحقا، في مصر، تعرفت على زوجها وعادت معه إلى لندن.
عاشت إيفيلين مع زوجها وأنجبت ثلاثة أطفال ثم انتهت حياتها الزوجية بالانفصال لسبب غير معلوم. تقول إنها كانت تدرك أنها مسلمة حتى ولو لم تفصح بذلك علانية. (وفجأة وجه قداسته كلاماً لي بسؤالي إن كنت كاثوليكيةً أم لا. ارتبكت لوهلةٍ ثم أجبته بأنني مسلمةٌ. لا أعلم حقيقة ماذا حل بي لأنطق بهذا خاصةً وأنني لم أكن أفكر في الإسلام لعدة سنوات. اشتعلت جذوة في كعود ثقابٍ أنار لي طريق البحث والدراسة عن هذا الدين).
في عام 1933 اتخذت قرارا غير مسبوق بالقيام للحج بمفردها كأول امرأة بريطانية. لم يكن الأمر هينا خاصة وأنها أوروبية. كان المسلون الجدد يخضعون للاختبار قبل السماح لهم بدخول الأراضي المقدسة. تعرض العرب لمحاولتي احتيال من اثنين من الرحالة الأوروبيين الذين ادعيا الإسلام ودخلا مكة للحج ثم عادا لبلادهما يتهمان العرب بسوء المعاملة وتعريض حياتهما للخطر رغبة في الكتابة عن الرحلة وسعيا وراء التربح من حكاياتهما. بعد تولي الملك عبدالعزيز بن سعود حكم السعودية أمر بأن يظل أي راغب في الحج من غير المسلمين بالولادة في جدة لعام كامل قبل أن يسمح له بالحج. جاءت الليدي إيفيلين لتكسر القاعدة فهي امرأة وحصلت على إذن فوري لذا كانت تجربتها غير مسبوقة وامتنانها للملك جليا.
ذهبت بمفردها في رحلة بحرية عن طريق مصر إلى جدة. وكانت في الخامسة والستين من عمرها. قضت بعض الأيام في جدة ضيفة في منزل بريطاني يدعي السيد عبدالله فيلبي الذي قد انتقل للعيش في السعودية. وبدأت في كتابة يومياتها ومشاهداتها للجزيرة العربية. عندما أتاها الإذن بالحج من الملك لم تسعها الفرحة وعشنا معها استعداداتها لرحلة العمر. أذهلتني هذه السيدة الاسكتلندية بتصميمها على مرادها في زمن لم تعتد فيه النساء القيام بأفعال غير مألوفة ناهيك عن اختراق العالم العربي والجزيرة العربية بتقاليدها وتفاصيل حياتها. رفضت التهميش أو التقليل من شأنها. أدت مناسك الحج وعادت لبلادها بكتاب يحوي تفاصيل رحلتها يوما بيوم. تنوعت الكتابة في مذكراتها بين وصف مشاهداتها للمكان وأهله وبين التصدي للدفاع عن دين اعتنقته بفطرتها وأحبته بتعقل فانبرت للدفاع عنه من موقعها كامرأة غربية تعرف مواضع الشبهات والاتهامات التي يكيلها الغرب له. مزجت في كتابها الوصف التقليدي لأدب الرحلات وأضافت المعلومات البسيطة عن الإسلام وتاريخه.
كامرأة عاشت وسط النساء العربيات واطلعت على أدق تفاصيل حياتهن، احتلت المرأة العربية جانبا كبيرا من حديثها. دافعت عن المفاهيم المغلوطة من تعرضهن للقهر والإهانة والظلم. رأتهن عن كثب وأحبتهن فأخذت على عاتقها عرض الصورة الحقيقية ليراها أهلها في الغرب في زمن ما قبل جوجل ووسائل الاتصال التي أحالت العالم إلى قرية صغيرة. كان الإنسان عدو ما يجهل ورأت الليدي إيفيلين أن الغرب يجهل الحضارة العربية وهي عالم مبهم بالنسبة لأغلب الشعوب لذا يناصبونه العداء والتحفز. يحفل الكتاب بالحديث عن السيرة النبوية والشعر العربي والمواقف التاريخية والمعلومات المتنوعة. نضحك ونحن نراها تركب سيارتها الفورد التي حظيت بها للتنقل في زمن نظر الناس فيه بتخوف من الهياكل المعدنية المتحركة وكان من الطريف مشاركتها في رؤية البيوت العربية القديمة بلا صنابير مياه جارية ولا تليفونات. نعيش معها في المملكة قبل اكتشاف النفط وانتعاش الحياة الاقتصادية فيها.
أدت مناسكها وعادت لبلادها وفي عام 1934 نشرت رحلتها في لندن. وعاشت في مزرعتها في جبال اسكتلندا ثلاثين عاما آخرين لتوافيها المنية وهي تناهز الخامسة والتسعين. في يوم بارد من أشد أيام البرودة في بريطانيا وقف على قبرها البعيد إمام مسجد وعازف قرب اسكتلندي يرتجفان. دفنت في أحب الأماكن إلى قلبها وأوصت بأن يحفر على قبرها الآية المحببة إليها ﴿ الله نور السموات والأرض﴾.
قرأت كتابها (الحج إلى مكة) وتأثرت به ككاتبة لرحلة شخصية مماثلة أولا وكشخص عاش في اسكتلندا ثانيا. شعرت أن هناك ما يربطني بهذه السيدة الاسكتلندية المعتدة بنفسها. رأيتها بلهجتها المميزة وحماستها لنقل تجربتها لكل العالم فشعرت أنني أريد نقل ما كتبته للعالم العربي. دغدغ الكتاب حواسي كمترجمة وقريبا سيطلع القاريء العربي على مذكرات الليدي إيفيلين كوبولد في كتاب( من لندن إلى مكة): رحلة حج أول امرأة بريطانية؛ الصادر عن دار السراج المصرية.
تعتبر يوميات الليدي إيفيلين أو زينب كما اختارت أن يكون اسمها العربي، توثيقاً هاماً- لا لتفاصيل حياتها في الفترة من 22 فبراير إلى 21 أبريل 1933 فحسب - بل لفترة سمعنا عنها ولم نرها إلا من خلال كلماتها. ولعلي سأختم كلامي بمقتطفات مما ختمت به رحلتها:
»ستحمل روحي للأبد متعة الرضا والسعادة التي غشيتها. لم تحمل لي الأيام السابقة إلا الخير، والجمال، والدهشة. لقد اكتشفت عالماً جديداً مذهلاً».
التعليقات