أحب الشتاء لكنني أكره اضطراري لطقوس استبدال ملابس الصيف بملابس الشتاء. ما إن تنتهي شهور ارتفاع حرارة وتهل بشائر البرد الذي يدغدغ الحواس كلها حتى يصبح البحث عن ملابس أكثر دفئا فرضا لازما. أبدأ بأفراد ابيت وأتلكع تاركة ملابسي لآخر لحظة توفيرا للجهد والوقت. أود لو أنني أستطيع قضاء أشهر الشتاء دون غلبة استخراج ملابسه الثقيلة المخزنة في أكثر من مكان. تحين اللحظة التي طالما حاولت الفرار منها. أبدأ في الاستعداد. أفتح خزانتي العالية وأقف حائرة من أين أبدأ.
ثم فجأة وجدت سيلا ينهمر فوق رأسي. لوهلة لم أدرك ماذا يحدث ومن أين أتى هذا الحشد المنهمر. أنظر تحت قدمي حيث استقر الحمل المبعثر فأجد أنها صور سقطت من الأعلى واستقرت في كل مكان حولي. توقف التدفق فنظرت للرف العلوي. الآن يمكنني معرفة مصدره: حقيبة كبيرة بها مئات الصور قد مالت وربما لم يحكم أحدهم إغلاقها يوما ما فكانت النتيجة فوق رأسي! انحنيت ألملم الصور المبعثرة. وجدت نفسي أجلس القرفصاء وتحيطني الذكريات من كل مكان؛ عن يميني، وعن يساري، ومن فوقي ومن أسفل مني! صور وذكريات؛ وجوه مبتسمة وأخرى غاضبة؛ أحداث سعيدة وأخرى حزينة. وجوه أعرفها وأخرى لا أملك عنها سوى حكايات فقد وافتهم المنية قبل مولدي. صور بالأبيض والأسود وصور ملونة. ملابس قديمة وقصات شعر عفى عليها الزمن.
يا إلهي! متى أصبح كل هؤلاء الناس ذكريات؟! لازالت أذكر سيارة أبي الأولى ومكان التقاط هذه الصورة لي في أول يوم مدرسة. ضحكت لصورتي بلا أسنان! أذكر جيدا أنني رفضت التصوير يومها وأصر أبي على التقاطها لي على حين غفلة! «ستكبرين وتنسين وتذكرك الصورة ويومها سنضحك و وسأذكرك بكلامي». صدقت يا أبي. الصورة هنا وأتذكر كلامك لكنك لست معي. لم تعد موجودا ذهبت كما ذهبت أسناني اللبنية.
كان أبي مغرما بالتصوير وورثت عنه ذلك. مئات الصور تسجل كل لحظات الحياة له ولغيره. خطبة أبي وأمي وخطبة خالتي. أفراح الكثير من أفراد الأسرة. احتفالات نجاح وموائد عامرة. أعياد ميلاد وأعياد دينية. صور على الشاطيء وأخرى بجوار الأهرامات. هنا القاهرة! هنا لندن! هذا جدي لأبي وهذا جدي لأمي. كنت الحفيدة الأولى لجدي وجدتي لأمي. عشت معهما حتى التحقت بالجامعة ثم ذهبا واحدا تلو الآخر.
لا أصدق أن من بين كل الوجوه لم يبق أحد على قيد الحياة سواي أنا وإخوتي! هل مر الزمن سريعا؟ هل غيبهم الموت مبكرا أم أن العمر حقا قد مضي؟! أمسك صورة لأبي وأمي في أيام زواجهم الأولى. ترى هل لو كان في استطاعتهما رؤية أحداث مستقبلهما لأكملا مشروع الزواج بحلوه ومره؟! هل كانت أمي تتخيل لحظة أمسكت بي لأول مرة يوم ولادتي كل ما فعلته في حياتها وبعد مماتها؟ بالطبع لا!
وهنا يتحتم علينا السؤال الأزلي: هل معرفة الغيب نعمة أم نقمة؟ هل لو علم الإنسان ما ينتظره في سنوات حياته كلها من خير وشر سيقبله راضخا ويحاول التأقلم معه أم أن الجهل في مثل هذه الأمور نعمة محتومة وفضيلة كبيرة؟! بلا شك الجهل بالمستقبل وما يحمله من أحداث هو الخير بعينه. هب أنك علمت أن مالك الذي قضيت عمرك في جمعه ستفقده في غمضة عين أو أن حبيبك الذي سهرت الليالي تفكر فيه ليس هو شريك العمر كما تعتقد بل ستفرقكما الأيام؛ وقتها ستفقد متعة الحاضر ولذة الأمل في الغد.
لتكتمل الصورة لابد من امتزاج الحلو والمر والنجاح بالفشل والمكسب بالخسارة. صورة بجوار صورة وذكرى من بعد ذكرى تشكل الحياة وترسم تفاصيل الحكاية. يذهب الأشخاص وتظل أفعالهم حاضرة يتذكرهم بها من يخلفهم فيمدحونهم ويتحسرون على غيابهم أو يحمدون الله على انتهاء سيرتهم واختفاء أثرهم فأي الطرفين نحن؟!
التعليقات