من أكثر الأشياء التي استمتع بها في سفري بالقطار هي النظر إلى المروج الخضراء والتمتع بصور الحياة التي أراها من خلف زجاج القطار. خط الأفق الأخضر يبعث على البهجة.
اللون الأخضر على مد البصر يتسبب في الكثير من الحسن للقلوب، أشجار ونخيل باسقات لا تحجب الرؤية بل تزيدها بهاءا، بيوت صغيرة وكبيرة ومتواضعة، فيلات وقصور، بعض من الأجران وعشش استراحة الفلاحين، مصانع وملاعب ومجاري مائية زرقاء وأخرى للصرف خضراء.
لون طين الأرض وزرقة السماء وبياض السحاب وخَضَار المزروعات النَضِرة قادرة على إخراج الكثير من المتاعب من داخلك.
تصطف المزروعات وكأنها تقف في طابور بانتظار دورها للذهاب للبيوت آمنة، طرق صغيرة لا ترى نهايتها، يحرسها صفين من أشجار الكازورينا على أرض قد تراها من شدة جمالها أرض من الجنة. دائما ما كانت الطرق التي لا أرى نهايتها باعثا للكثير من الأمل والإِسْتِطَاعَة والإِقْدام.
بقرة أو إثنتين تأكلان على رأس الغيط تكتمل بهما مشهد بديع من مشاهد الحياة. جداول مائية لامعة يرتسم على حوافها صورة الأشجار من خلفها.
أما المتعة الحقيقية في كل هذا الجمال الثابت هي جمال أروع متحرك؛ الطيور البيضاء التي تتراقص أسرابها فوق تلك الحقول الخضراء وتحط وتقترب من الأرض كمن وجد بيته أخيرا بعد طول انتظار.
تتراص بعض القطارات المتهالكة على القضبان الجانبية في استراحة محارب، وأظن أنها يجب أن تتحول إلى مزارات تحكي قصص كل الأبطال الذين ركبوا فيها.
أما تلك القضبان الصلبة اللامعة التي لم تبريها مئات من سنوات الجري عليها، بل زادتها بريقا ولمعان اصقل سطحها وجعل المرور عليها ناعما؛ هي الباعث الأكبر لتتأكد من أن كل ما مر عليك زادك متانة وبأس ورسوخ وتماسك على أرضك.
ثم في ومضة سريعة تضيء أشعة الشمس فرع النيل العظيم ليصير رقاقة من الذهب المضيئة تبهر عينيك وتدفئ قلبك، تغمض عينيك وتشهق كل حواسك غير قادرة على استيعاب كل هذا السِحْر وكل هذا البهاء.
حسنا يا صديقي وكما للجمال أوجه عديدة، فإن للقبح أوجه أكثر إنما نحن من نختار أن نرى الجمال دون القبح ونؤثر البهاء على المَنْقَصَة.
في كل قطعة أرض تراها يجاورها تل من السِبَاخ تراه بُني اللون متواكب مع المكان لكنك لم تشتم رائحته المنفرة. لم تطاردك أسراب الذباب اللزج القادر على تحويل حياتك إلى قطعة من الجحيم.
على أسطح المجاري المائية تعيش أسراب الناموس وعند اقترابك منها تفزع وتاكلك حيا لما اقترفته في حقها.
وعندما يأتي الشتاء والمطر تتحول الأرض البنية الصلبة إلى بِرك غاطسة تترك آثارها على قدميك حتى ركبتيك.
أنت ترى الجمال من نافذة مكيفة، لكن على الأرض قد تتحول حرارة الشمس إلى لفحة لهيب تأخذ معها طبقات من جلدك العزيز الذي تكافح منذ سنوات بازلا ثروة حقيقية لحمايته بكريمات الوقاية من الشمس.
لا يخلو المشهد أبدا من بعض أكوام القمامة، بعض المناطق المهملة، بعض البيوت المتهالكة وبعض القلوب القبيحة.
بعض الحقول يتصدرها دخان المحروقات القادر على استبدال الهواء العليل بيد "ريا وسكينة" تطبق على صدرك مستهدفة روحك لتسرق منك أجمل لحظات العمر.
حسنا يا صديقي كان هذا هو المشهد بوجهيه، لك أن تختار أي وجه تحب أن تراه وتستدعيه.
كل حسن قد يغلف قبح وكل قبح قد يُدَاخِله جمال وعينيك الواعيتان قادرتان على استخلاص الجمال من كل مشاهد الحياة.
نحن من يستنفر الطاقة الذميمة نحن من نبحث عن السلبيات ونُعَظِمها، نحن من نصر أن تقع عينينا على القبح فيموت بداخلنا الإحساس بالجمال.
نحن من نرى الشجرة العارية من الأوراق ميتة وليست متساقطة الأوراق تنتظر الربيع لتزهر من جديد.
حتى حشائش البوص النامية على المصارف قد تراها حشائش يجب إزالتها ولكني أراها جدار يحمي جدران المصرف ويثبت تربته ويبعث الجمال البديع بلونه الأخضر وشُوشه البيضاء.
بعض الأشجار زرعت على حواف المقابر، تظل المقابر مشهد حزين ولا يعيب الأشجار الباسقة المتهدلة أين وضعت بذورها.
ساق النخيل عارية لكن انتظر حتى تثمر بلحا أحمرا قانيا يسر الناظرين.
أترك لك حرية الاختيار يا صديقي، فأحيانا لا تبدو الصورة كما تراها، عليك طوال الوقت أن تستدعي جنود السعادة بداخلك لتعينك على تحويل المشهد لصالحك. هي عينيك وقلبك وحياتك اتركهم أينما أحببت لكن استخدمهم لصالح سعادتك وهناء أوقاتك.
هناك بعض التفاصيل يُفَضَل أن تخفيها عن عقلك لتتحول الأشياء لصالحك.
أنت لا ترى الحقيقة، بل ترى ما تحب أن تراه!!
فلو استخدمت قدراتك لتجعل تلك الرؤية إيجابية لتَحَولت معظم المشاهد في دنيتك إلى فيلم جميل يمدك بالنفع والتفاؤل كلما نظرت إليه.
التعليقات