فكرت كثيرا ماذا أكتب والعالم كئيب وفلسطين تحترق على مقربة منا ولا نملك كف الظلم عنها. تحاصرنا الأخبار واللقطات الحية كل يوم فتزداد الغصة في الحلق. قامت الهيئة الملكية الأردنية للأفلام بالتعاون مع مؤسسة الفيلم الفلسطيني بإتاحة مجموعة من الأفلام مجانا لمدة عشرة أيام على موقعها. هناك العديد من الأفلام الوثائقية أيضا متاحة على موقع يوتيوب وهذه مبادرة مهمة للتعرف على الفن الفلسطيني وكيف يتحدثعن نفسه وعن قضيته. نشاهد اللقطات الحية كل يوم وتدمى لها قلوبنا لكن هناك دوما قصة خفية وراء العدسة يجب تسليط الضوء عليها وسبر أغوارها.
(إلى أبي) وثائقي يسجل رحلة الفلسطينيين في أيام ما قبل النكبة مع التصوير والكاميرات. في عصر الصور غير الملونة بل بالأسود وأبيض كانت الصور(تتنفس) وكان الجميع سعداء. حياتهم كانت بسيطة وهادئة وكانوا يتفننون في تسجيل كل لحظاتهم الحلوة مع الأصدقاء والعائلة في البحر والمزارع والمدارس وفي الشوارع أيضا. (مكناش خايفين) عبارة يقولها الراوي فتمس القلب وتدمع العين. يستعرض لنا صور الأحبة والساعات الطوال التي يقضيها المصور في تجميلها وإضافة الرتوش لها وباقات الورد والأطر الأنيقة لتخرج في أبهى صورة. أما النيجاتيف الخاص بالصور فكان يحفظ في الاستوديو بفخر واعتزاز ليسهل استخراج نسخة جديدة من لحظات حلوة كبر أصحابها وبقيت هي على حالها براقة بهية.
يتبدل الحال وبهد عدوان 1967 تتحول الصور من مصدر بهجة إلى مصدر خوف. أصبحت سببا في الاعتقال فتعرضت للتدمير والإخفاء. (صارت الصور تخوفنا) يقول الرواوي. غير الاحتلال صور أهل فلسطين وهوياتهم. لم يعودوا يلتقطون الصور بمحض إرادتهم وهم يبتسمون بل أصبحت فرضا عليهم للحصر والمراقبة. تحولت الصور من توثيق للذكريات الحلوة لصور لهم في منشورات وكالة الغوث الدولية أونروا وهم يتلقون التطعيمات أو المساعدات الإنسانية. في الانتفاضة الأولى على الظلم والعدوان كانت الصور ملونة لكنها كانت قبيحة لأنها لم تعد توثق لحظات الفرح والابتسام بل وثقت الاعتداءات الإسرائيلية والركلات والصفعات. (الصور ملونة بس بشعة)، ولم يعد الاحتفاظ بالنيجاتيف مدعاة فخر بل هو تذكير دائم بتبدل الحال وتدهور الواقع.
ومع دخول السلطة الفلسطينية إلى غزة في عام 1993 فرحوا بعد طول انتظار بحقهم في رفع العلم. وسمح لهم أخيرا بالتقاط صور له مرفرفا في السماء. كانت الكاميرات حاضرة في كل مكان ووضعت المعابر والحواجز ومعها عدد كبير من الكاميرات تصورهم وتراقبهم. أصبحت الصور رغم ألوانها سوداء كئيبة فهو (سلام وهمي) بحسب الراوي حيث يقتل الجنود طفلا عائدا من مدرسته في وهم يغادرون غزة وكأنهم يأبون أن يغادروا دون إراقة دماء جديدة رغم الاتفاق ورغم السلام المزعوم. رصد الفيلم ببراعة تبدل الحال من خلال دور الكاميرا في حياة أهل فلسطين. بين ماضٍ جميل وواقع قبيح كانت الصور حاضرة توثق وتسجل حتى لا ينسى من رواء العدسة ومن أمامها.
ويرصد وثائقي آخر معاناة شابين انقطعت بهم السبل عن الوصول لأهلهم. (غزة تنادي) يحكي قصة أم انتقلت إلى رام الله في الضفة الغربية بعد انفصالها عن زوجها الغزاوي لكن زيارة ابنها لأبيه في غزة تسببت في حرمانها من رؤيته لسنين طوال. تقتضي القوانين الدخيلة أن يبقى الولد في غزة ولا يسمح له بالمرور إلى الضفة. عليه أن يكون طفلا دون الرابعة عشرة وتوفى أحد والديه ليسمح له بالسفر. أو أن يكون مريضا قد تجاوز الخامسة والستين من العمر ولا يوجد من يخدمه في غزة أو أن تتمنى له الأم المرض ليصبح مؤهلا للسفر لها لرعايته! أرض واحدة وشعب واحد لكنه محروم من التنقل. تسلك الأم كل السبل لتجتمع مع ابنها لكنها تفشل. تحدثه عبر شاشة الكمبيوتر كما لو كانت تفصله عنها بحار وحيطا لا بضعة كيلومترات. أما الشاب الآخر فسعى وراء حلم الدراسة في جامعة بيرزيت في رام الله. حصل على الإذن بمغادرة غزة لكنه حرم في المقابل من العودة إليها. إن عاد فلن يسمح له بالخروج مرة أخرى. ست سنوات حرمته من أسرته ومن أمه. حاول العمل ثم حاول السفر لدراسة الماجستير عن طريق الأردن فقوبل طلبه بالرفض. في النهاية غلبه الشوق لأمه وانقطعت به السبل فقرر العودة لغزة(السجن الكبير) بحسب كلامه. للمفارقة المبكية يلجأ الاثنان إلى مؤسسة حقوق إنسان إسرائيلية في يأس علها تساعدهما في حل معضلة السفر ومعضلة لم شمل الأسرة. يا للعجب! من صنع المشكلة ووضع العوائق سخر من يحاول المساعدة ويقدم العون! معاناة يرصدها الفيلم في الحركة والتنقل فالهوية الغزاوية قيد ثقيل يكبلهم لا يملكون منه فكاكا وكأنها جزء غريب في نسيج الوطن الفلسطيني الذي قطعه الاحتلال إلى أرب متفرقة دون وجه حق.
وفي(إسعاف) وفي فيلم مدته ثمانون دقيقةنحبس أنفاسنا مع محمد المصور الشاب في تطوعه للتنقل والتصوير مع سيارة الإسعاف. لقطاته الحية تأخذنا معه في الاعتداء الغاشم على غزة عام 2014. يتعرض حي الشجاعية للقصف مع إنذار مجهول يصل عن طريق رسائل لهواتف السكان في مدة زمنية لا تتجاوز الدقائق المحدودة. لا يملكون فرصة للنجاة إلا بشق الأنفس ويتركون الغالي والرخيص فقط لينجو بأنفسهم. في هلع تكون الوسيلة الوحيدة الآمنة هي سيارات الإسعاف فيركب فيها الأهالي مكومين لتأخذهم إلى المستشفى حيث يأمنون القصف. كان هذا وقت كانت المستشفيات حرما آمنا محميا من القصف والاعتداءات بموجب الاتفاقات الدولية والإنسانية!
في وقت الهدنة يعود محمد المصور مع سيارة الإسعاف لانتشال الضحايا بعد خمسة أيام فينهار من هول ما يرى. تتعرض سيارة الإسعاف ذاتها للقصف فيهرب إلى البيت خائر القوى إلا أنه سرعان ما يعود لتأدية مهمته التطوعية التي اختارها. في نهاية الأمر هو جزء لا يتجزأ من نسيج غزة. الفيلم ثقيل على النفس متشابه المشاهد لكنها الحقيقة اليومية هناك دون تجميل أو حذف.
وفي فيلم(الشجاعية) نتعرف على مأساة أسرة صغيرة تسبب القصف في بتر أطراف الأب والأم والابن ووفاة عدد من الأقارب. تبدل الحال وانفرط عقدهم وبين دموعه يعجز الأب عن تفسير ما يمر به وتبرير القرار الذي اتخذه بتفريق الأسرة. صدمات نفسية لم يسلم منها الكبار تدمر اختياراتهم كما دمرت أجسادهم. هناك دوما قصة وراء الصورة. لم تعجز الكاميرات عن نقل الحدث لكن لابد من وجود من يحكي ويخرج مكنون صدر أصحاب الصورة. لكل قضية لسان يتحدث عنها ولا يمل الدفاع عنها وعرض مآسيها ومشاكلها. على مدار خمس وسبعين سنة رصدت الكاميرات الأحداث وشاهد العالم التوثيق اليومي لشعب كان وما يزال يصرخ طلبا للنجدة!
التعليقات