يأتي كتاب "نزار قباني والقضية الفلسطينية" للباحثة السورية ميرفت دهَّان في لحظات مهمة وتاريخية ومصيرية من عمر أمتنا العربية، حيث العدوان الإسرائيلي الغاشم والغادر والقذر، على شعبنا الفلسطيني بعامة، وعلى قطاع غزة على وجه الخصوص.
وقد واكب معظم شعراء الأمة العربية بقصائدهم تطورات القضية الفلسطينية منذ ما قبل عام النكبة 1948، وكتبوا مئات – إن لم يكن آلاف – القصائد التي تساند وتقوي من عزيمة الشعب الفلسطيني في الدفاع عن أرضه وعن عرضه، وتندد بالعدوان الإسرائيلي المتكرر على هذا الشعب العريق الصامد أمام أحدث أسلحة القتل والفتك والدمار والاغتيال، والتي لا تفرق بين طفل وشيخ، ورجل وامرأة، ورضيع ومُسن.
وتظل لقصائد الشاعر نزار قباني السياسية وقعها الخاص وتأثيرها المباشر على قارئ شعره، ولو لم تكن القضية الفلسطينية، ما قرأنا لنزار قباني قصائد عنها بهذا الشكل الهجائي والتهكمي للواقع العربي وللحكام العرب والتي بدأها الشاعر بقصيدته المعروفة "خبز وحشيش وقمر" قبل أن يكتب قصيدته الأشهر "هوامش على دفتر النكسة" عقب هزيمة يونيو 1967؛ ولو لم تكن قصائد نزار قباني التي عبر فيها عن أبعاد تلك القضية بطريقة فنية أقرب إلى المباشرة، ما عرف الكثير من قرائه فداحة الأمر وخطورته وعنفوانه ودراميته.
إن المباشرة التي وسمت بها قصائد نزار قباني السياسية بدأها في زمن كانت القصائد السياسية فيه تأتي على شكل إشارات بعيدة إلى ما يدور في المجتمع. أما نزار فأتت قصائده على شكل نقد وهجاء وتهكم وتنديد وشجب واستنكار، كما نرى في هذا الكتاب الذي بين أيدينا.
لم يخص نزار دولة بعينها في هجائه السياسي، وإنما أورد رموزًا لا يحاسب عليها، إنه أراد التعميم ليس عن عجز، وإنما لأنه أراد أن يكون قريب التناول من الناس وبشكل خاص في همومهم وآلامهم وعلى الأخص الألم العربي الكبير، القضية الفلسطينية، كما تشير إلى ذلك مؤلفة الكتاب.
الخُطب لم تعد تجدي، والقدس مغتصبة، وتنتظر العروبة والعرب ليعيدوا شرفها إليها، والقوة وحدها هي التي تجدي. والنصر لن يأتي ونحن قاعدون في سريرنا، أو على حد قول الشاعر:
ولم نزل نظن أن النصر وليمةٌ تأتي لنا.. ونحن في سريرنا ..
بطبيعة الحال لم يهجُ الشاعر أو يتحامل على الشعوب العربية والإسلامية والحكام العرب والمسلمين فحسب، ولكنه يهجو الإسرائيليين واليهود أيضا هجاءً سياسيا مقذعا، ويؤكد لهم في أكثر من قصيدة أن الفلسطينيين باقون في أرضهم وذلك من خلال منشورات الفدائيين على جدران إسرائيل، وما أحوجنا هذه الأيام إلى تلك التأكيدات والتشبث أكثر بالأرض والوطن، أمام الاجتياحات الجديدة للعدو الإسرائيلي، وأمام محاولات التهجير الثاني للشعب الفلسطيني الذي لن يسمح بنكبة ثانية، بعد نكبة 1948، فمن يُوقف العدوان على الأراضي الفلسطينية سواء في القدس أو غزة، وبقية الأراضي المحتلة؟
يعوِّل الشاعر على وعي الشعراء والأدباء والمثقفين والفنانين والكتَّاب متمثلين في "ِشعراء الأرض المحتلة" فيُخصص لهم قصيدة باسمهم، غير أن له مآخذ على الكتَّاب العرب الذين لا يزالون يتشاغلون بالصرف والإعراب، وينادون ربهم القوي الغلاب أن يغلب اليهود، ويدحرهم وارء حرمات القدس، دون أن تفعل الشعوبُ والحكَّام شيئا.
تهتم الباحثة ميرفت دهَّان بما ورد من دراسات ومقالات وشهادات حول شعر نزار قباني السياسي، مثل ما ذكرته الشاعرة والباحثة الفلسطينية د. سلمي الخضراء الجيوسي التي رأت أن نزار قباني عكس في قصائده السياسية فترة ما بعد النكسة، ورد الفعل على الصعيد العربي العام هو الكراهية الشديدة للنفس والرغبة في جلدها وإدانتها وقد رُدَّت إليه الروح يوم بدأت المقاومة وكانت قصيدة "فتح".
وهكذا يطوِّف بنا الكتاب حول أهم ما قيل عن شعر نزار السياسي لتقدم الدهَّان لنا وجبة دسمة عن هذا الشعر، إلى جانب دراستها الأكاديمية التي تؤكد أن نزار كان صوتًا شعريًّا مهمًّا ومختلفًا، نذر الكثير من شعره الحي النابض بالعروبة للقضية الفلسطينية، بمعالجات شعرية لم تزل تصلح حتى اليوم للتعبير عن واقعنا العربي وواقع القضية العربية المركزية خلال قرن من الزمان، وكأنه يعيش بيننا الآن.
اتبعت الباحثة الأسلوب الأكاديمي في تناول شعر نزار، وتوقفت عند الالتزام في شعر نزار قباني، وأثر هزيمة 5 يونيو/ حزيران على الشاعر، وصورة الفلسطيني في شعر نزار، وفنية شعر نزار في خدمة القضية الفلسطينية، ثم درست اللغة والإيقاع والصورة الشعرية – خاصة في جانبها النفسي - في هذا الشعر السياسي.
وتوضح الباحثة أن موضوع شعر نزار قباني الغزلي ليس المرأة فحسب بل هو التمرد الذي ينطلق بالإنسان إلى الحرية، وهذا ما يظهر لدى دراسة قصائده الغزلية من خلال النظر للكلمة في سياقها داخل الجملة أولا ثم داخل المقطع الشعري، فالبناء العام للقصيدة عندها سوف يظهر المعنى جليًّا وتظهر حقيقة الصورة الشعرية.
ومن الغريب أن الحكَّام الذين كان يهاجمهم الشاعر وينقض عليهم بأقذع النعوت يتسابقون لمنحه تأشيرة دخول إلى دولهم، ليس فقط ليأمنوا شره، ولكن أيضا لأن مهارته في صياغة المواقف وفي التعبير عن الهدير الداخلي تعطيه مناعة إضافية في وجه حراس الحدود الذين يعرفون أنهم إذا منعوا جسده من دخول بلادهم، فإنهم لن يقدروا على منع قصائده ونعوته المقذعة، على حد المرجع الذي رجعت إليه الباحثة، وهو بحث جورج طراد. وقد عاينتُ ذلك بنفسي عندما مُنعت دواوين نزار في مصر بعد قصيدته "هوامش على دفتر النكسة"، فزاد الطلبُ عليها واستُنسخت الكثير من دواوينه الشعرية، فدائما الممنوع مرغوب.
وترى الباحثة أن الجروح إن لم تفتح وتطهر سوف تصبح قروحًا لا تشفى وهذا لا ينطبق على شعر نزار السياسي فقط بل إنه منذ بداياته الشعرية سلك هذه الطريق الوعرة واتخذها أسلوبًا لشعره.
ولكن هل الهجاء والدمع وسيف عنترة سيعيد الأرض المحتلة؟ بالتأكيد لا. ولكننا نحتاج دائما إلى دفعات معنوية في مقابل الحروب النفسية التي يشنها العدو، ولذا نرى الشاعر يثمِّن دور منظمة فتح، أو منظمة التحرير الفلسطينية في قوله:
حين قرأنا عنكم الذي قرأنا خمسين قرنًا بكم كبرنا وارتفعت قاماتُنا وأزهرت حياتُنا ما بعد ما نشفنا.
وقد أخذت الباحثة على الشاعر قوله: "وخلفوا القدس فوق الوحل، عارية / تبيح عزة نهديها لمن رغبا" وأنه كان يقصد تُباح بدلا من تبيح، بسبب الوزن. وأرى أن الوزنَ واحدٌ في الحالتين، ولم يتغير بين الكلمتين، فالكلمتان (تبيحُ - تُباحُ) على وزن شعري واحد وهو (فعولُ)، ولكن المعنى يختلف اختلافا بينًا بينهما. وتعقب الباحثة على المعنى بقولها: قلما ورد مثل هذا الخطأ في صور نزار.
وعلى الرغم من كل هذا الهجاء السياسي، وما يشبه جلد الذات العربية الذي قرأناه في قصائد نزار، فإننا نراه يبشر بالأمل والتفاؤل، وتورد الباحثة مقطع نزار الذي يقول فيه:
يا آل إسرائيل، لا يأخذكم الغرورعقارب الساعة إن توقفت لا بد أن تدور.
لقد استطاعت الباحثة ميرفت دهَّان أن تنفي عن الشاعر نزار قباني اللقب الذي وسمه النقاد به وهو "شاعر المرأة" طيلة مسيرته الشعرية، وهو ما أخفى جانب السياسة في شعره وهو جانب لا يقل أهمية عن الأول كما وأخفى البعد النفسي المتألم والمرارة التي أحس بها كمواطن عربي والتي ظهرت جلية في شعره بعد ضياع دولة فلسطين في 1948.
ونختم بقول نزار:
إن هذا العصر اليهودي وهمٌ ..
سوف ينهار لو ملكنا اليقينا.
التعليقات