في ظل التحديات الكبيرة التي تواجه الصحافة كصناعة عتيدة بخاصة من قبل المنصات الرقمية الكبرى بعد دخول الروبوتات التي تعمل بتقنيات الذكاء الاصطناعي في حقل العمل الإعلامي، وتراجع نموذج الصحافة الاقتصادي القائم على عائدات الإعلانات، يحتدم النقاش حول مستقبل المهنة، وكنت قد أشرت في مقالي السابق إلى وجود رؤيتين متناقضتين، ترى الأولى أن مستقبل الصحافة المطبوعة في خطر، وإن مصيرها إلى الزوال، وبينما تعتبر الرؤية الأخرى أن الصحافة وان كانت تتعرض للعديد من الأزمات، إلا ان ذلك ليس إلا مرحلة انتقالية وعابرة في عمر هذه الصناعة العريقة، حتى نستقر على شكل إعلامي محدد.
وقد تصدت العديد من الدراسات العلمية الرصينة لهذه القضية، منها دراسة د. محمد عبد الحميد أستاذ الصحافة المشارك بكلية الإعلام بنين – جامعة الأزهر التي صدرت في كتاب بعنوان "الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته الصحفية.. الواقع وتحديات المستقبل" وتستعرض أبرز التطبيقات التي يتم توظيفها في الجوانب الإعلامية والصحفية، ومدى تأثير الذكاء الاصطناعي على المحتوى الصحفي وعلى مستقبل الصحفيين، والتحديات التي تواجه تطبيق الذكاء الاصطناعي في الصحافة. ودراسة د. السيد بخيت أستاذ الصحافة والإعلام بجامعتي القاهرة وزايد التي تصدر قريبا في كتاب بعنوان (رقمنة الصحافة الورقية.. وسائل التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي رؤية مستقبلية) وتخلص الى أن الصحافة كمهنة لا تزال تثبت وجودها وقدرتها على الاستمرار بغض النظر عن الوسيط الذي تنشر من خلاله سواء كانت إلكترونية او ورقية.
يستند د. بخيت في هذه الرؤية على دلائل ومؤشرات عديدة، منها: أولا: أن وقائع تاريخ الصحافة ذاتها تشهد على قيامها بتجديد نفسها من مرحلة لأخرى، وفقًا لمقتضيات السياق ومن ثم فإن ما نشهده الآن هو حلقة من سلسلة تحولات في حياة الصحافة المكتوبة، وقد تكتسي في المرحلة القادمة بأثواب مغايرة وجديدة. ثانيا لا تزال الصحافة الورقية المطبوعة تضطلع بذات الأدوار الطليعية التي عرفت بها، وخاصة السياسية، ولم يظهر حتى الآن دلائل قوية على تراجع نفوذ المؤسسات التقليدية من جراء النشر الصحفي الإليكتروني، فحتى الانفراديات السياسية والصحفية التي عمت الآفاق في السنوات الأخيرة مثل الويكيليس وتسريبات أدوار سنودان، وأوراق بنما، وغيرها، كانت بحاجة لمعونة الصحافة المكتوبة لكي تنتشر، حيث تم نشرها بالتعاون مع بعض المؤسسات الصحفية العريقة. ثالثا: لا يزال عدد من المؤسسات الصحفية صامدًا في ظل التحولات الصحفية والاقتصادية التي تمر بها. كما إن الصحافة الورقية لا تزال تحافظ على وضعها، في بعض المناطق كالهند وأسيا والشرق الأوسط، بل وهناك زيادة في الطباعة سنويًّا من 2 إلى 10%. رابعا: أن عدد الصحف التي تم إغلاقها بعد قدوم التليفزيون يعد أكبر من عدد الصحف التي تم إغلاقها مع ظهور الإنترنت.
وفي الوقت نفسه فإن معظم صحف الإنترنت تستقى مادتها الأساسية من النسخ المطبوعة، مع توفير روابط للمادة المطبوعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. ولم يظهر حتى الآن الكثير من الصحف الإليكترونية العملاقة. بل لا توجد مقارنة ذات قيمة حقيقية، بين الصحف المطبوعة ذات الصيت وبين الصحف الإليكترونية حتى اليوم، فضلا عن أن النسخ الإليكترونية لا تزال تستمد قوتها وقدرتها وقيمتها الصحفية والسوقية من انتسابها لصحيفة مطبوعة أو مؤسسات إعلامية تقليدية.
وردا على تأثير أزمة الإعلانات يكشف كتاب (رقمنة الصحافة الورقية) أنه بالرغم من زيادة المردود الإعلاني من المنتج الصحفي الرقمي، إلا أن الكثيرين لا يزالون يتشككون في جدواه، وفى مدى قدرته على دفع رواتب الصحفيين مثلاً، او تعويض خسائر هذه الصحف، وأحدث شاهد على ذلك، إغلاق الموقع الإخباري المتميز لـ Buzz feed في إبريل 2023.
نعم تتعرض صناعة الصحافة بخاصة المطبوعة للكثير من المخاطر والأزمات، لكن مَنْ قال أن مهنة الصحافة تنحصر فقط في الصحف المطبوعة، فممارسة المهنة لا تتوقف عند هذ الحد، المهم هو مَنْ يقوم عليها، وأي محتوى يقدمه، وأية أخلاقيات مهنية يلتزم بها، وفي أي مؤسسة يعمل، ومَنْ تستهدف.. وغيرها من التساؤلات التي تشي إجاباتها بأن المهنة باقية، بغض النظر عن طبيعة الوسيط الذي تتم ممارساتها عبره.
التعليقات