كانت الجمعة الماضية آخر صلاة جمعة لى في "مصر المحروسة" قبل انتقالي إلى أبوظبي للعمل هناك.. فكانت صلاة مميزة مليئة بالحنين والشوق والتفكير فيما سأترك من أهل وأصدقاء وحياة وفيما سأذهب الى عالم جديد.
وعادة عندما أذهب لصلاة الجمعة أفضل دائما أن أكون فى الجامع ساعتين على الأقل هناك قبل ميعاد صلاة الظهر. حتى يتسنى لى قراءة القرآن والتسبيح والصلاة على رسولنا الكريم.
ولكن فجأة استوقفني منظر للحظات أذهلني.. لم أراه منذ زمن بعيد
رجل عجوز على كرسي متحرك يجلس خارج الجامع..
ممسكا فى يده.. جريدة!! نعم جريدة ورقية!
ما هذا.. "جرنال"!!
هل مازال هناك جرائد ورقية؟! بل هل هناك من لازال يقرأها..
ويقرأ المقالات!! وبنفس الطريقة المعهودة القديمة
حيث "يطوي صفحاتها بشكل عامودي"-كعادة محترفي قراءة الجرائد فى الاتوبيسات والمترو قديما.. حتى لا يعيق نظر المارة والجالسين عند فرد صفحات الجريدة ليستطيع بذلك التركيز مع سطور الجريدة الصغيرة والمتتالية بشكل عامودي فلا تفقد عيناه ترتيب السطور عند القراءة –
"هههههههههههه" وحتى لا يسترق أي من جيرانه القراءة معه في جريدته مجانا!!
استوقفني المنظر كثيرا.. وجعلني أعود بذاكرتي الى حيث كنت طفلا صغيرا في منزل والدي في "وسط البلد".. بعد صلاة الفجر.. عربات نقل المؤسسات الصحفية وهي تنهل الشوارع وتلقى –بشكل احترافي أثناء سيرها - حزم الجرائد على نواصي الشوارع ليلتقطها بائعي الجرائد سواء فى الأكشاك أو على أرصفة الشوارع بجوار حزم الخضار لمطاعم الفول والطعمية..
ويشرع باعة الجرائد بدورهم في عرض تلك الجرائد والمجلات بطرق تجعلك تريد قراءة كل عناوين تلك المطبوعات.. ومنهم طريقة كانت أشبه بطرق نشر الغسيل على الحبال !!-
اختراع مصري أصيل-
سرعان ما تداركت ان ذهني شرد بعيدا.. فقررت التركيز فى صلاة الجمعة.. وقراءة القرآن والتسبيح وكذلك الإكثار من الصلاة على النبي خاصة يوم الجمعة فهو مستحب..
بعد انتهائي من الصلاة وجدت نفسي أهرول سريعا إلى جهاز الكمبيوتر لأكتب تلك المقالة بحماسة عجيبة!
لم أنسى أبدا رائحة تلك الجرائد التي كانت تفوح منها رائحة الأحبار النفاذة والتي كانت أشبه برائحة الجاز.. كما لم أنسى كم مرة اتسخ قميص مدرستي الناصع البياض من تلك الأحبار وأنا أحضر الجريدة اليومية لأبى قبل ذهابي الى المدرسة..
فى الصباح لم أكن أعرف وجوه الناس.. لم أكن أراها.. فالكل ممسكا بجريدة تغطى وجهة.. يقرأها في نهم وتركيز شديد..
لم أكن أرى غير أجسام يعلوها صفحات جرائد.. معظمهم موظفون وفى أيديهم جرائد مطوية بطريقة معهودة –عمودية-
ولكن كان الأكثرية منهم دائما داخل وسائل المواصلات الطويلة مثل القطارات.. حيث تجد منهم من هو ممسكا بقلم وجريدة
وهو فى حيرة من أمرة متسائلا بصوت عالى عل أحدهم ينجده بالحل
"دولة متوسطية من 3 حروف أول حرف منها م ؟؟؟"
سرعان مع يشترك كل من في المكان بإيجاد الحل.. وسرعان ما يدونه الرجل على صفحات الجريدة نفسها بحروف صغيرة في أحد المربعات في سعادة وإثارة وسعادة!!!
نعم انها آفة وإدمان الشعب المصري "الكلمات المتقاطعة"
وربما تجد من هو يقف بجواره متربصا يختلس النظر لقراءة عنوان خبر ما..
متظاهرا بمساعدة صاحب الجريدة "المحتار" فى حل بعض أسئلة الكلمات المتقاطعة!
كانت الجرائد هي النافذة والمصداقية الوحيدة فى عالمنا لتلقى الخبر بعد نشرة الأخبار فى قناتي التليفزيون الوحيدتين!
وأحيانا أخرى فى نشرة الأخبار الاسبوعية فيما عرف ب “الجريدة السينمائية" والتي كانت تعرض دائما على شاشات السينما قبل عرض الفيلم.. ويتبعها دائما فيلم كرتون أمريكي فى سينما مترو أو روسي فى سينما أوديون.
كانت الجرائد مصدر العلم والثقافة والخبر. الموثق والرسمي من الدولة
كانت الجريدة هي النافذة على العالم..
ولكن مع تطور الزمان أصبح للجريدة منافع أخرى!!!
واسمحوا لى أن أعددها لمن عاش تلك الفترات لأذكره بها كنوع
من "النوستالجيا" والتي انقرضت.. ولمن لم يعشها حتى يعرفها..
وهنا اسمحوا لى عند هذه النقطة الأخيرة أن أذكر السبب الثاني لكتابة تلك المقالة..
فعند إخراجي لمسلسل "نقل عام“ بطولة النجم محمود حميدة..
كان من شخصيات عائلة البطل "أحد أبنائه" طفلا صغيرا.. فكنت أقوم بدوري كمخرج للتواصل مع الممثل "الصغير" الذي كان يقوم بهذا الدور..
وللتقرب منه وخلع فكرة الخجل بيني وبينه كنت أخذه فى جولة داخل الديكور لأعرفه عليه وأعوده على المكان.. الخ
ولكن فجأة توقف الطفل وأشار بإصبعه الصغير فى ذهول
عمو عادل.. أيه دا؟
وكان يشير إلى أحد إكسسوارات الديكور وكان "جهاز كاسيت"!
وقبل أن أظهر استغرابي له بعدم معرفته بجهاز الكاسيت وشرائط الكاسيت.. توقفت وأدركت أنه من جيل اخر.. بل سخرت من نفسي ربما أنا اللي من كوكب أخر..
وسرعان ما أسعفني تفكيري ورددت عليه سريعا
دا زى "السي دي" يا حبيبي.. أقصد "الفلاشه".. أو" الأى بود"
ربما تفهم الطفل مغزى كلامي.. ولكنه أمسك بشريط الكاسيت
واخرج بكرة محتواه وهو يشدها ويدقق النظر بداخلها فى ذهول
وكأنه يريد أن يشاهد بداخلها من يغني!!!
كان ذلك سببي الثاني لكتابة هذا المقال للأجيال التي لم تعاصر
ما سمى فى مصر "بالجرنال"
هذا ان كان هناك من لايزال يقرأ مقالات حتى فى عالمنا الرقمي..
نعود ونتذكر..
ان الجرنال كانت له فوائد أخرى غير الخبر والمعرفة والثقافة
او بمعنى أخر..
ابتكر "الكائن" المصري العظيم صفات وفوائد عديدة للجرنال
لم تكن تخطر على بال من اخترع الفكرة أصلا!!!
وعلى بال "سليم وبشارة تقلا" مؤسسي جريدة الأهرام 1876
ومن قبلهم بالإسكندرية على يد مطبعة "سليم الحموي" 1873
واسمحوا لى بسرد تلك الاختراعات العديدة والعجيبة والتي يعجز أي عقل على ابتكارها اللهم الى العقلية المصرية المبتكرة والتي ربما شاركها في ذلك أيضا بعض من جيراننا من العالم العربي..
عندما كان يطوى الجرنال الى نصفين كان يعامل بمثابة
"حامل مضاد للسخونة"!!
بداية من "قراطيس" الطعمية الساخنة جدا التي لا يقوى أحد
على حملها عند خروجها فورا من زيت القلية في نفس الميعاد صباح كل يوم..
نهاية الى رغيف العيش البلدي الذي خرج لتوه من الفرن!!
كذلك تحول أطنان الجرائد المتراكمة والتي تم قراءتها عبر شهور
إلى عملة اقتصادية! "ربما أفضل من البيتكوين الآن"
حيث يتم تجميعها وبيعها بالكيلو لبائع" الروبابكيا" والذي يدفع مبلغا جيدا لها.. ويقوم بدوره لبيعها هو الأخر
لمحلات الطعام "خاصة محلات الفول والطعمية" أو محلات بيع المنتجات الزجاجية أو الأقمشة.. ولا ننسى محلات الرنجة والفسيخ!!
نعم.. كما اشتهر وازدهر استخدام فى لف الساندويتشات والاسماك والاقمشة والاكواب الزجاجية القابلة للكسر عند نقلها.. ولف الجبنة الرومي و .... الخ..
لكن ربة البيت المصري لا تستطيع التخلي عن كل الجرائد.. فللجرنال فوائد أخرى هامة داخل المنزل وبالتالي كان لست البيت نصيب من تلك الجرائد قبل بيعها..
أولا لتلميع زجاج شبابيك المنزل وزجاج السفرة..
وضعها على السفرة قبل وضع "الظفر" السمك أو اللحم المدهن..
ولتخزين ولف صوابع الموز والمانجا وضعها تحت السرير حتى تنضج قبل أكلها..
لم تتوقف فوائد واستخدامات الجرنال عند هذا الحد..
فعند أي حادث على الطريق.. حيث يكون هناك ضحايا اعتاد الناس على تغطية تلك الضحايا بالجرائد أيضا!
وعند ظهور تجارة العملة فى السوق السوداء كان أشهر طرق تهريب العملة هو لفها بالجرائد وكأنها لفه شرائح جبنة رومي!!
استخدام كميات من الجرائد فى غلق فوهات زلع المش والعسل!!
وربما فى كل بلد عربي كانت توجد استخدامات مشابهة
أو أخرى زائدة..
تطورت فائدة الجريدة من القراءة الى ......
لا أعرف ماذا اسميها.. الى ماذا ...
لم نعد نقرأ..
الا عناوين الاشاعات المغلوطة التي لا ثقة فى مصدرها على صفحات" الخراب الاجتماعي"..
لكن كانت مميزات الجرنال عديدة غير القراءة
ولكن بالله عليك ماهي مميزات الكلام" الرقمي" غير قراءته؟!!!
للأسف لن تستطيع لف الساندويتش به!!
لن تستطيع تلميع الزجاج به!!
لن نستطيع حتى تغطية جثة به؟!!!
لكنك تستطيع قتل شعب بأكمله بإشاعة واحدة منه!!
التعليقات