"الخياط فهيم".. هل تعرفه؟ بالطبع لا، ولا أحد ممن حوله يعرف هذا الاسم رغم أنه اسمه في الأوراق الرسمية.
لكن عندما تقول "واد جده" تُختصر المسافات والعبارات التعريفية. اللقب الذي صار عَلَما بخصوصيته بعد أن كان رمزا للسخرية والتنمر..
بغلاف يلخص الأحداث ما بين حنو الجد رغم صرامة الملامح ومنحه اسمه، ورعاية الجدة وديدة وتضحياتها، وأم لم تتخل عن عفتها التي سُلبت منها مكرهةً؛ من نذل هارب للاسف هو الأب الحقيقي. بملامحها المخفية التي تشبهه والتي مع ذلك لم تأتيه يوما في أحلامه. فلا رغبة حقيقية منه في البحث عنها، ربما لأنه لم يُعدم حنانها متمثلا في الجدين أو رغبة منه في عدم تذكرهما للحظات الحسرة والخذلان التي فُرضت عليها. أو لعله لم يهتم أيضا بالبحث عن أسباب، فواد جده ابن جذوره، لا ينتمي لوالديه بقدر ما ينتمي إلى أصوله.
تجده متجها بكليته إلى الماضي؛ كالسائر بظهره نحو المستقبل. فقد تعَود السير للخلف كلما تقدم للامام، ليبقى حبيس الذكرى، سجين قشرة البندق مستسلما لها وهي تطبق على الصدر وتخنق الأنفاس وتقيد الحركة في انتظار أن تنكسر بين فكي متجبر أو شِقَّي رحى؛ قد تحرره أو قد تحطمه، لكن هيهات أن يقوم هو بهذه المهمة من محبسه في الداخل فهي ليست هشة كبيضة دجاجة أو لعله أضعف من فرخ صغير، حتى طحنته رحى الماضي وقد حمل على جسده ما لا يشبهه من ملابس؛ تمنى لو تعلم التعري ليتخلص منها وقد عاشت سنوات مع غيره حتى آلت إليه في النهاية؛ فحجبته عن ذاته.
فصول الرواية تحمل عناوينا وتواريخ. حقب وعلامات محفورة على وجه الوطن؛ مذكرة بحُسنه وأوجاعه. ومسطرة صفحات من قسوة وتخبط، وانكسارات وانتصارات، وكأن الوطن تمثل فيه وحمل من أحداثه ما شكل بنيته ووجدانه ليجعل منه صيادا في حين أو قارئ كتب عند عصابة، وأحيانا بائعا متجولا أو كاتبا أو رساما أوحكيما أو حتى قاتلا.
تتميز الرواية بالبنية الحكائية التي تتخذ منحىً دائريا تبدأ من النهاية وترتد ثانية إلى البداية ابتدأت حيث انتهت بأحداث عام 2011 مرورا بعام 1952.
أول إشارة إلى أيديولوجية الكاتب التي لايخفيها مع تعدد تلك الإشارات على مدار الرواية؛ فخروج واد جده من رحم المأساة في هذا العام، كان بمثابة اخراج الوطن من سجنه الهش إلى رحابة الحياة بحلوها ومرها. وهو عندما يعطي عنوانا لأحد فصول الرواية ممثلا في تاريخ موت الزعيم ثم يُذَكِّر بكل مثالب الحقبة السلطوية من اعتقالات وتعذيب وسطو على الأموال والأراضي ونسبتها إلى غير أصحابها حتى تبلغ النصاب الذي يجعلهم يضعون ايدي الحراسة عليها؛ ينظر إلى كل ذلك على أنه أمور ثانوية وهوامش جانبية لا تدخل في صلب الحقبة بينما يبالغ في مقت أحداث مماثلة في حقب أخرى وإن اكتنفها ظلم وجور أقل في وطأته، كهتافات المتظاهرين في عام 1977: " سيد.مرعي يا سيد بيه كيلو اللحمة بقى بجنيه."
حيث جعل من سلطة الدولة والمتظاهرين ندين يحق لأحدهما أن يدافع عن نفسه في مواجهة الدولة ولو بخلع بلاط الأرصفة وحرق سيارات الشرطة. وهو ما ألمح إليه بذكر عام 2011 في بداية الرواية ونهايتها وكأننا ندور في حلقة مفرغة.
لا أدري علته في هذا.. هل لأنه كما قال الجد ذات مرة للصغير: "صعيدي زينا"؟
يقول في صفحة 22: "وتسبب المرتشون المغرضون في هزيمتنا في حرب فلسطين." فأجد نفسي أتوجه إليه بسؤال منطقي: من هم؟ هل هم دخلاء على السلطة أم أعضاؤها المعينون من تسبب في هزيمة 1967؟
دائما أنت متهم في ذلك العصر فإما أن تكون خائنا، أو كافرا أو أنك تكون مع السلطة. بل ربما كانت كل جريمتك أنك فقط تقرأ؛ فنهايتك كنهاية مكتبة تحولت ألى نقطة شرطة أو مبيتا للخيل والجنود.
يحمل واد جده من المتناقضات كإبن لعصور التخبط والتغير القاسي، وكإرث آل إليه من الجد الذي رغم رؤيته الثاقبة لما يدور حوله إلا أن التعريشة التي شيدها للعابرين والمندرة التي فصلها عن البيت بباب واهٍ كانت هي الثغرة التي نفذ منها الذئب ليلتهم وحيدته.
حين يقول:"أريد أن أرقد في سلام. "هو لا يريد النهاية بل العودة إلى قشرة البندق لتحتويه بهشاشتها وتحيطه بمنأى عن الأحداث؛ محتفظا بأسراره في صندوقه عند تعثر الخطوات.
لكنه دائما يردد: "لم لا أكون طائرا؟" يسعى إلى غد لا ليعيشه؛ لكن ليكون غيمة تنهي حياتها على أفق الماضي بقطرات الحياة على شرفة راجية. راجية التي تمثل المعادل الموضوعي للوطن بكل ما مر به من أحداث وخطوب رحلت يوم مات الزعيم ومعها أهلها بعيدا وما عاد أحد يعرف أرضهم.
أو تفر من واقعها مع الشواف ذو المال والعصا.
ليجدها مقيَّدة اليد إلى كرسي مغموس في رمال الشاطئ لتنتهي بفقدان للذاكرة بل وفقدان الحياة مهما أعيدت إليها فالماضي لايعود.
للوطن عنده تأويلات وترميزات فهو راجية والمقبرة الفرعونية وقد يتمثل في جزء من أمه.
يترك الجد بلدته خلفه بكل الأحداث التي لاتزال ابنته تحمل جزءًا منها في أحشائها. فربما حياة جديدة في المدينة تكون عوضا للجميع عن ما فقدوه وخلفوه وراءهم.
اقتلع حكايته من بين ضلوعه كاقتلاع الفأس للحشائش الضارة وأودعها لدى الخياط الذي عندما وجده الجد في المدينة وجد معه الحل، فكان اسم الخياط الذي أُطلق على الوليد هو العرفان لصنيعه باختراع واد جده ونسبته إلى الجد بديلًا عن الأب واحتواء للأزمة.
تجده يأنس إلى مصلح الصديق الذي يتخذ من هامش الحياة وطنا، لم يغادر القرية لكنه يسير على الطريق متوقعا أن شيئا ما هاما قد يحدث يوما ما.
يهوى واد جده الزعامة منذ الصغر وإن كانت زعامة على الأطفال اواللصوص أو الباعة الجائلين لكن سرعان ما يدرك أنه منصب وضيع.
" من لا يجرؤ؛ لا يعبر النهر." جملة غيرت مجرى حياته عندما سمعها لأول مرة من مدرس التاريخ؛ أخرجته من وحدته وكسر بها الخط الذي حدده له جده.
ولأن الأشرار لا يقرأون كما قال له الشيخ ذات مرة فقد قبل الجزء الذي اقتطعته العصابه له من سرقاتهم نظير قراءة الكتب لهم. فقدرته على حقنهم بالخيال من خلال قراءة ما تحويه تلك الكتب، هو القادر على أن يحيلهم من أشرار إلى أشجار باسقة باحثة عن النور.
كعادته دائما يهرب من حلمه بالعودة إلى ماضيه ولو من خلال الكتابة أو الرسم أو الخيال.
يذهب إلى من يشاركه الذكريات، فكأنما الحياة عنده لا تُعاش إلا إن كانت ماضيا، أو لا تكون الحياةُ حياةً إلا أن يبثها في الحكايات النائمة.
تلفه السكينة عند المقبرة الفرعونية المنهوبة حتى إن أصبح ما فوقها مركزا للمصائب والمؤامرات.
إلى أن قرر أن يقتل ضعفه فقرر اهمال السياسة وتفرغ للتجول ببضاعته وأوجد من خلال توقفه عن الحب شخصا آخر تعلق به وتدرب على وجوده ولم يدرك أنه ذهب بعيدا إلا بعد أن سمع بيان النصر.
يقول عن محطات في حياته:
وبقدرة قديمة كنت قد اكتســبتها من النــوم وحيدا، مددت روحي، فكانت على مقاسي، وبها حضنت نفسي كطفل استقبلته القابلة في قماط قديم".
رأيت المستقبل بعين ترى الماضي. وجدته سلسلة من الهزائم.
دائما تتنازعه القوى المتضادة، إحداها تقــول: الخيبة ولا الغيبة داعية إياه للاستسلام وتجنب المغامرة لكشف الغموض ، والأخرى متمثلة في صوت جدته يأتيه من بعيد وهي تخبره أن الضعف لو غاص فيه، يكســره كعصا سيدنا سليمان حينما أكلها السوس.
علم من حال جدته أن الحب الحقيقي شخصان ملتزمان بالعمل معا من أجل حياة سعيدة لكنه أتى بها من بيت الذكريات الذي باعه وسنوات الكفاح المتقضية لتكون في المدينة بلا صاحبات تعيش تفاصيلها معهن حتى انتهت إلى جسد متوارٍ خلف أوراق الجرائد بالشارع وعلى رأسها كوفية جده تعتمرها فوق الحردة السوداء. طارت من الشرفة، رحلت بعد أن لفظت حياة المدينة.
تعلم أن الوجع يحسب عمره بمدى الآهات.
وأن رحلة الألم لا تعرف الأميال.
وأن من يترك أناقة الصمت يضل.
وأن أفضل طريقة لحفظ الحياة هي وضعها في صدر امرأة.
وأن كل من مر بحياته عليه أن يوجدهم ليحاسبهم وربما يطلب الستر منهم.
وأنه عندما تســقط منك بطاقة تحقيق هويتـك وتجد صعوبة في التقاطها، وقتها يمكن القول بأنــك انتهيت.
وأن الذين جئنا من أصلابهم لا يموتون.
كما تنازعته قوى السلطة والمال بصراعها..
المحافظ مع الشواف وعصا الناظر الذي امتلكها بعد أن عاقب المحافظ بها وقت أن كان بالمدرسة وقبل أن يتزوج ابنته فيما بعد.
في حديث عن حقبة السادات يقول :
ما فعله ســابقة لم يقترفها أحد قبله، أقصى كل الرافضين للاتفاقية، وجمع شــتات من لا يمكن جمعهم في مكان واحد من شيوعيين ويساريين وإسلاميين وملحدين، وكســب عدوات جديدة، وقال عنهم دعاة فتنة.
ثم حديثه عن التغيرات الحادة ابتداء بأسعار الذهب الذي أصبح بـ 12 جنيها، والدولار الذي قفز ليصبح بـ 81 قرشا،
وانتهاء بأســعار متر الأرض المباني،
يمكن تلخيص أيديلوجيا الكاتب في جملتين: "مات الزعيم" و"السادات قُتل"
عبارات أنيقة
سافرت إلى جزيرة بعيدة يُطعم الضجيج فيها رغيف الشغف.
الصمت عباءة الكلمات أو قناعها أو روحها.
عانقتها عناقا أوشم بكل مفردة منها ملتصقة بي معلما
يدل عليها، وليتحول جسدي في النهاية للوحة كلها هي.
كنا أنا وهي محبوسين بين قوسين.
دلالة الأسماء عند مصطفى البلكي واضحة جلية: فهيم ووديدة ومصلح وراجية والشواف حتى الخياط من يرتق الثوب المثقوب.
هناك لفظة تكررت أكثر من 16 مرة وهي " مفردات" بصيغها المختلفة.
"الموسيقى" دائما مكتوبة بالألف
واد جده رواية ذات ثقل تاريخي وسياسي واجتماعي.
ابنة زمنها وبيئتها.
جمال اللغة وأناقتها تضفي عليها شعرية تخييلية رائقة محققة أدبية الأدب.
قرأتها أربع مرات، في كل مرة اكتشف جانبا جديدا بل رواية جديدة.
التعليقات