الترجمة كما نعرفها جميعا هي نقل نص من لغة إلى أخرى. ويكمن الهدف من عملية تحويل نص من لغة إلى أخرى في تبادل الخبرات أو نقل المعلومات والثقافات أو حتى مجرد مشاركة شخص آخر فيما يدور من حوله. ومثلت الترجمة منذ قديم الزمن جسرا للتواصل بين الثقافات فبواسطتها تنتقل الأفكار والحكايات بين البشر رغم اختلاف لغاتهم وبيئاتهم. انتقلت العلوم والمعارف من بلد لآخر ومن لغة إلى أخرى بواسطة الكتب والمخطوطات المترجمة. كما شكلت الترجمة الفورية أداة للنشاط التجاري فيذهب التاجر من بلد لآخر سعيا وراء رزقه فيحتاج لمترجم يكون حلقة الوصل بينه وبين تاجر آخر لا يتكلم لغته ولا يستطيع التفاهم معه بصورة مباشرة دون وسيط. كما كان للمترجمين أيضا دور فعال في الحروب كسفراء بين القادة والجيوش.
إذن كان دور المترجم عبر العصور لا غنى عنه. اهتمت كل الحضارات بالترجمة في العصور القديمة وأجزل الحكام العطاء للمترجمين إيمانا منهم بأهمية ما يقومون به. وشهدت الحضارة العربية اهتماما واسعا منذ عصر الخلفاء الراشدين بالترجمة من اللغات المختلفة كالسريانية والفارسية. ولا نغفل قيمة حجر رشيد والجهد التاريخي المبذول فيه من المترجمين الذين عكفوا على فك ما حمله من نصوص باللغة الهيروغليفية والديموطية واليونانية القديمة.
والمترجم البارع عليه أن يكون متقنا للغته الأم وللغة التي يترجم منها وإليها. وهو دائب القراءة والاطلاع لا يكل ولا يمل من المعرفة والبحث ولا يستنكف أن يعترف بخطئه إن أخطأ أو أن يرجع لأصحاب اللغة إن تعذر عليه ترجمة عبارة ما. من صفات المترجم الماهر أيضا اتساع الثقافة والتبحر في علوم اللغة والبلاغة. عليه أيضا أن يقرأ باستفاضة في الموضوع المراد ترجمته سواء كان طبيا أم اقتصاديا أم أدبيا حتى يكون على بينة من أمره فيما يخص المصطلحات الدقيقة بكل تخصص وأسلوب الكتابة المتبع فيها. على المترجم أن يكون صبورا أمينا ومخلصا لما بين يديه من نص يراد نقله للغة أخرى.
لكن لا يمكننا إغفال إشكالية حرية المترجم في التعامل مع النص. هل المترجم حر أم أنه أسير النص الأصلي لا يمكنه الفكاك منه؟ هل من حقه أن يتلاعب بالنص الأصلي حذفا وتبديلا؟ ماذا يفعل المترجم عندما يجد نصا يتعارض مع أفكاره أو معتقداته الدينية أو حتى توجهاته السياسية والإنسانية؟ تنحصر مهمة المترجم في اختيار العبارات والمفردات التي يراها مناسبة وفق حصيلته اللغوية ورؤيته. النص الأصلي ملك الكاتب تماماً على عكس النص المترجم الذي هو ملك للمترجم جزئياً ويحق له تبديل وتغيير المفردات والتراكيب وتحسينها وتنقيحها ليصل إلى منتج نهائي يرضيه لكن لا يخرج به مطلقا عن حدود النص الأصلي وخط سيره. أعطِ نصا لثلاثة مترجمين وستجد أن الناتج ثلاثة نصوص تم تحويلها من اللغة المصدر إلى اللغة الهدف بلغة سليمة متطابقة في المعنى لكنها تختلف في عباراتها وتنسيقها وفقا لما ارتضاه كل مترجم بصفة شخصية. لكل منهم مذاق مختلف وروح لصاحبه بين ثنايا الكلام لكن في نهاية الأمر هي ترجمات أمينة مطابقة للأصل.
ماذا لو قام أحد المترجمين بحذف كلمة لم ترق له أو عبارة رآها خادشة للحياء أوعنيفة أو غير لائقة؟! لا يحق للمترجم بأي حال من الأحوال تغيير النص الأصلي حذفا أو تعديلا فكاتب الكلمة قصدها بعينها وقرر تضمينها فيما خطه بيده. وبنفس المنطق فعلى المترجم أيضا ألا يتمسك حرفيا بالنص ليخرج نصا مفككا مترجما ترجمة حرفية أفقدته معناه وانسيابيته اللغوية. حِرَفية المترجم هي الفاصل بين تشويه النص بنقله بآلية وبين تغيير المتن ومراد الكاتب فهناك فرق شاسع بين التمسك الحرفي بالنص وبين حرية إعادة صياغة الجمل والتراكيب بما يتماشى مع طبيعة اللغة المنقول إليها. هنا يتمتع المترجم بحرية لغوية يمسك فيها بزمام قيادة النص ليخرجه في أبهى صورة. لكن أن ينصب نفسه رقيبا ليحذف عبارات لا تروقه فهنا يخون الأمانة التي بين يديه.
عندما يقدم القاريء العربي مثلا على قراءة رواية أو كتاب مترجم فهو يتوقع من المترجم ومن دار النشر الأمانة والثقة في التعامل. نسمع أحيانا عن رواية مترجمة تم حذف بعض الجمل منها لأن المترجم لم يكن راضيا عن محتواها! هذه خيانة للنص وللأمانة العلمية. المترجم رسول بين كاتب ومتلقي ليس عليه إلا البلاغ. لا تقع عليه مسؤولية الإرشاد أو النصح أو التوجيه وليس وصيا على فكر الكاتب. ليست له صلاحية التدخل بتغيير ما كتبه صاحب العمل المراد ترجمته. للمترجم الحق في كتابة تذييل في الهوامش يشرح خلفية ما يعنيه الكاتب أو يوضح ما قد يلتبس على القاريء فهمه نظرا لاختلاف الثقافات. وتعد هذه مساهمة محمودة من المترجم في تقديم العمل بصورة سلسلة ومفهومة بذكر معلومة غائبة أو شرح فكرة ما.
في بعض الأحيان النادرة خاصة في ترجمة النكات أو الأمثلة الشعبية التي ليس لها نص مطابق في الثقافة واللغة الهدف يكون من الذكاء التعامل مع النص بطريقة تحفظ أصالته وتنقل المراد منه بحنكة ولو تم تغيير العبارة تماما لأخرى موازية، لكن لا يجوز له ليّ عنق النص أو تغيير سباب أوعبارات غاضبة مثلا بغيرها أو إضافة ما يغير روح الفكاهة على سبيل المثال في نص ما. على سبيل المثال لا يحق للمترجم تحويل حوار إلى سرد به ملخص لما يقوله أبطال الرواية لهوى في نفسه.
ما السبيل المتاح أمام المترجم لتفادي الدخول في إشكالية ترجمة ما يتعارض مع معتقداته وأفكاره؟ في رأيي عليه أولا قبل الشروع في قبول ترجمة نص ما أن يقرأه جيدا حتى لا يفاجأ بعد الاتفاق بما لا يرضاه ويضطر للتراجع مما يسبب الضرر له ولدار النشر أو صاحب العمل. الكلمة أمانة سواء كانت من بنات أفكاره أم من ترجمته فلا ينطق إلا بما يرضاه ويتفق معه. وعلى دور النشر التنويه أن بعض الأعمال لا تناسب مرحلة عمرية ما أو أن العمل يتناول مشاهد عنف تماما كما هو الحال مع الأفلام والمواد المرئية. وفي نهاية الأمر فالقاريء له مطلق الحرية في قبول نص أو رفضه وفقا لمعاييره وثوابته. وعلى المترجم تذكر واجبه كمرسال أمين بين طرفين مهمته إيصال رسالة حتى وإن كانت شديدة اللهجة أو الفكر فناقل الكفر ليس بكافر.
التعليقات