في واحدة من أندر وأجمل المواقف التي تعرضت لها في حياتي، سأحكي لكم حكاية اليوم.
كان اليوم مختلف لم تطلع فيه الشمس، جو استوائي غريب في مدينتي الحبيبة بالإسكندرية، فتحت شيش البلكونة في بيتي وجلست مع زوجي.
الحر خانق جدًا فهممت بفتح مروحة السقف. فوجئت بوجود قش طويل يعوق حركتها. وضعت سلم كبير، صعدت وأخذت المحمول في يدي لألتقط صورة لما لا أراه فوق موتور مروحة السقف.
ذهلت بحق … وجدت يمامتان صغيرتان ملتصقتان يسكنان في عش صغير!
فاض قلبي ورَقَّ، تَعَطَّفَ وكاد يتفطر!!
تخبطت مشاعرنا بشدة أنا وزوجي، خشينا على الصِغار فنحن أبوين نقدر غلاوة الأبناء وقيمتهم.
كيف حال والدهما؟ هل سيطعمهما؟ هل سيأتيان؟ هل يشكل وجودنا خطر عليهما؟ ماذا نفعل؟
الكثير والكثير من الخوف، التخبط والرجاء ولا نعرف ماذا نفعل؟
بقينا في الشرفة ثم خطرت لي فكرة أن أنقل العش بالكامل فوق شجرة قريبة حتى يتسنى لأهل الوليدين أن يطعمها.
نفذت الفكرة بسرعة بمعاونة زوجي لكن لم يأتي أحد لفترة طويلة. ثم ما لبثت السماء أن انفتحت بماء منهمر فخشيت الشتاء والبرد على الصغيرين، وفي نفس الوقت ارتعبت أن تأكلهما قطة أو طير ضاري، فأسرعت بإعادة العش لمكانه.
قررنا الدخول بداخل البيت كي نترك فرصة للأبوين أن يعودا دون خوف.
مرت دقيقة واحدة، وكانا قد عادا بالفعل!!
كانا ينتظران، كنت أسمع أصواتهم، كانا هنالك طوال الوقت.
تلك الفرحة لا تشترى، إن من الجود بحق أن تشهد على انتصار أفكارك ومراهنتك على الفطرة القويمة.
هدأت هواجسنا وجلسنا سويًا نستمتع بمشهد أقل ما يوصف به هو البهاء والحسن وجميل الامتنان لله. كانت لحظات إطعام الصغار مشهد لن يفارق ذاكرتنا ما حيينا.
نعم عاد الأبوين ليُطعما أبنائهم، عادا لأنهما دائما يعودون … عادا لأن تلك فطرتهم … عادا من فورهم وقاما بإطعام الوليدين في مشهد إنساني خلاب قمت بتصويره بالفيديو.
اُختير مكان العش بعناية مذهلة، لا يصل إليه طير مفترس أو قط أو زاحف … في سقف الشرفة تحت حماية الرحمان.
صديقي، لا تزال فطرة أبويك دائمًا تعمل لصالحك فلا تبرح أرضهم ما حييت.
من مفارقات هذا اليوم أننا رأينا ليلا عنكبوت جميل تتدلى خيوطه الفضية على حرف الشرفة، نسجها بمهارة فائقة كأنه يغلق علينا غار حراء.
لست بحاجة سوى أن تؤمن بأن الجمال سيظل موجود، أن الأمنيات تتحقق، وأن الأحبة لن يغادروا…
سنظل هنالك دومًا في انتظاركم نتطلع لكل لحظة، نلبي كل طلب بود، نؤدي ما علينا بحب ودومًا نعود ولن نغادر أبدًا.
من بشارات السماء أن يستأمنك طير ما على حياة أغلى من لديه، أن تنمو حياة مفاجئة في بيتك، أن تنهمر الأمطار في غير موعدها، أن يتحول الجو الخانق إلى نسمة خريف تُبَرِد القلوب، وأن تصير أنت شاهدًا على هذا الإبداع الرباني.
حسنًا يا صديقي، كانت تلك الأيام من النوع الثقيل الذي لا يمر، كنت أتضرع إلى الله كل يوم بأمنياتي وأحلامي، أدعو لمن أحببت دعواتي السرية وأنا أتطلع إلى الرجاء.
نعم، هذا هو المنهاج الذي اعتمدته لأكثر من أربعين عام. أدعو الحبيب، أنتظر رسائله لي، وهي تأتي ولا تتأخر، استبشر، ثم أتَرَقَّبَ موعد تحقيق دعواتي.
اعتدت ألا أشكو إلا إليه … الصمد الذي يسمع نجوتي، هو الصديق الذي لا يتغير، من كان ولا يزال يسمعني، العضد والسند والرجاء الذي يصلب ظهري عندما ينحني.
كل شيء من حولنا يتضمن رسائل مستترة يطالعها أصحاب النفوس اليُمنى الذين يعرفون كيفية الصبر، يوقنون أنه ليس بيسير وليس بعسير، وأنك تنجو لا محالة ولو بعد حين.
لعلها كانت اليوم أجمل البشارات العابرة لقلبي، أقوى الكلمات التي لم تكتب، والإجابات التي لم تبعث بعد، وبالتأكيد مليئة بالكثير من دفء التواصل مع القدير.
من أعظم الهبات التي يمنحك الله إياها، أن يجعلك تراه كل يوم، تسمع صدى دعواتك وترى الأمل في إجابتها، يخالجك الرجاء وتتمتع بحلاوة الصبر حتى محطة الوصول.
أبعث بتلك الرسائل لأحبتي الذين التحفوا قلبي وصِرت كِساءهم. سأظل هنالك أفعل ما أفعله بحب وجمال، سيظل مروري على أرواحكم كريمًا، لن أبرح أرضكم ولن يعطش زرعكم ما دامت أنفاسي في دنيتكم، وسيكمل الله تعالى تلك المسيرة من بعدي.
ستظل سنوات عمري تنقضي في محبتكم، لن أغادر عُشي، ولن يفنى عطائي.
اليوم أجدد عهدي بأن أظل ذاك الجناح الكَنَف الحامي من البرد، اليد التي تطبطب، القلب الذي يفيض رقة وعذوبة، والسند المستقيم الذي لا يميل ولا ينحني وإن مال علينا الدهر.
لن تجدوني إلا في كل موضع أحببتموني فيه، ستظل مَشُورَتي تعمل لصالحكم، ستبقى يدي تُقيم ظهوركم، وسيظل عضدي مِلْكً لكم.
لن أبحث عنكم فأنت تسكنون روحي ولن أغادركم يومًا، فذاك العش الآمن سيظل في ذات المكان الذي تعرفونه، في موضع لن يغيره الزمان.
التعليقات