تحتفل مصر بذكرى استرداد طابا، ورفع العلم المصرى فوق أخر قطعة من أراضينا المحررة فى التاسع عشر من مارس 1989م تلك الذكرى المجيدة التى صنعتها ملحمة عسكرية عظيمة.
سجلتها قواتنا المسلحة يوم السادس من أكتوبر 1973م، ثم ملحمة أخرى ىسياسية ودبلوماسية وقانونية فريدة شارك فيها عدد كبير من رجالات مصر العظماء فى مجالات عدة لإعادة تلك البقعة الغالية إلى أرض الوطن، مؤكدين أن مصر لا يمكن أن تتنازل عن حبة رمل من أراضيها
ذكرى تحرير طابا، منبعا لا ينضب، تنهل منه الأجيال القادمة معانى العزة والكفاح والولاء والانتماء، ومثال يحتذى به فى الإصرار على صون الكرامة الوطنية، ودرس فى أن الحفاظ على الأوطان لا يأتى إلا بالتضحية والعمل والعلم، وليس بالأمانى والشعارات.
بهذه المناسبة أتقدم للرئيس عبد الفتاح السيسى، رئيس الجمهورية، القائد الأعلى للقوات المسلحة، ولجميع أبطالنا من رجال القوات المسلحة البواسل، ولكل العقول والخبرات المصرية العظيمة؛ ممن ساهموا فى صنع هذا اليوم المشهود فى تاريخ مصر، وللشعب المصرى الآبى بخالص التهنئة، داعيا العلى القدير أن يحفظ مصر وشعبها وجيشها من كل سوء
فى ذكرى تحرير طابا يجب أن يتذكر المصريون بكل فخر تضحيات القوات المسلحة وجيش مصر العظيم الذى رفض الهزيمة، وقاتل جنوده بقلبوهم وعقلوهم وضحوا بحياتهم فى سبيل الوطن وصون مقدساته.
نشأ النزاع على طابا، التى أطلق عليها "قضية العصر" فى أواخر عام 1981م خلال المرحلة الأخيرة من انسحاب إسرائيل من سيناء، ولكن الدولة المصرية أبت أن يغتصب ولو شبر واحد من أراضيها، وكانت قضية طابا نموذجا لاستخدام الدولة المصرية لقواها الشاملة فى القضية؛ التى دامت 7 سنوات حتى عودة طابا.
عملية الانسحاب الإسرائيلى من سيناء مرت بثلاث مراحل، الأولى تمثلت فى النتيجة العملية المباشرة للحرب، وانتهت فى عام1975 بتحرير المضايق الإستراتيجية وحقول البترول الغنية على الساحل الشرقى لخليج السويس.
وكانت المرحلة الثانية والثالثة من الانسحاب تطبيقاً لبنود معاهدة السلام التى تضمنت المرحلة الثانية انسحابا كاملا من خط العريش - أؤرأس محمد؛ والتى انتهت فى يناير1980 وتم خلالها تحرير32 ألف كم2، وخلال المرحلة الثالثة انسحبت إسرائيل إلى خط الحدود الدولية الشرقية لمصر وتم تحرير سيناء فيما عدا الشبر الأخير ممثلا فى مشكلة طابا التى أوجدتها إسرائيل.
وفقا لنص معاهدة السلام فقد نصت المادة الثانية منها "على أن الحدود الدائمة بين مصر وإسرائيل هى الحدود الدولية المعترف بها بين مصر وفلسطين تحت الانتداب".
كما نصت الفقرة الثانية من المادة الأولى على أن "تسحب إسرائيل كافة قواتها المسلحةوالمدنيين من سيناء إلى ما وراء الحدود الدولية بين مصر وفلسطين تحت الانتداب".
ومع أن منطقة طابا لا تتجاوز كيلو متر مربع، حيث تمثل مثلثا قاعدته فى الشرق على خليج العقبة بطول800 متر؛ وضلع شمالى بطول ألف متر؛وآخر جنوبى بطول1090 مترا،
ويتلاقى الضلعان عند النقطة؛ التى تحمل علامة 91 وتبعد عن مدينة شرم الشيخ حوالى 240 كم جنوبا. إلا أن أهمية طابا الإستراتيجية بالنسبة لإسرائيل كبيرة للغاية، فطابا تقع على بعد7 كيلومترات من الميناء الإسرائيلى إيلات شرقاً مما يجعلها الباب على سيناء .
حيث تعتبر إيلات أضيق جبهة إسرائيلية فى المنطقة؛تطل على العقبة فتمتد 5 أميال محصورة بين ميناء العقبة الأردنى ووادى طابا؛ ولكن إذا ضمت إسرائيل طابا إليها فستنجح فى توسيع إيلات التى تعتبر المنفذ البحرى الوحيد لها على البحر الأحمر ؛مما يؤهلها للإشراف على طريق البحر الأحمر من سيناء الى باب المندب. كما تعد المنطقة المدخل الأساسى لشرم الشيخ وبالتالى مضيق تيران.
منطقة طابا ستكون لإسرائيل نقطة تحكم تقوم من خلالها على الاطلاع على ما يجرى فى المنطقة ووسيلة ضغط مستمرة على مصر تقوم من خلالها بعزل سيناء شمالها عن جنوبها.
تقع طابا فى مواجهة الحدود السعودية فى اتجاه مباشر لقاعدة تبوك، لذلك فمن يسيطر على طابا يسيطر على رأس خليج العقبة فيستطيع رصد ما يجرى فى كل من خليج السويس وشرم الشيخ ونويبع ؛ولهذه الأسباب حاول العدو الإسرائيلى تحريك بعض هذه العلامات داخل الأرض المصرية للاستيلاء على طابا.
وأدركت مصر منذ اللحظات الأولى؛ للخلاف أن إصرار إسرائيل على الاحتفاظ بذلك الشريط الحدودى الصغير؛ الذى يمتد1200 متر؛ولم يكن بهدف الاستيلاء على أرض فقط.
وعرضت مصر موقفها بوضوح وهو أنه لا تنازل ولا تفريط عن أرض طابا، وأى خلاف بين الحدود يجب أن يحل وفقًا للمادة السابعة من معاهدة السلام التى تنص على أن تحل الخلافات بشأن تطبيق أو تفسير هذه المعاهدة عن طريق المفاوضات، وإذا لم يتيسر حل هذه الخلافات عن طريق المفاوضات تحل بالتوفيق أو تحال إلى التحكيم.
واستعدت مصر للجوء إلى التحكيم، فى حين أصرت إسرائيل أن يتم حل الخلاف بالتوافق للوصول إلى حل يرضى الطرفين وتحقق مكتسبات فى أرض طابا.
ونحو هذا الهدف قامت إسرائيل بإنشاء فندق هيلتون طابا لترسيخ مبدأ الأمر الواقع ولا يكون أمام مصر إلا قبول استمرار ملكية إسرائيل الفندق في تونس أو التسليم بحق الإسرائيليين فى الانتقال إلى منطقة طابا دون جوازات سفر كما طلبت بعد ذلك.
والإصرار المصرى أجبر إسرائيل على القبول بمبدأ التحكيم ؛وأعلنت فى 13 / 1 / 1986 موافقتها على قبول التحكيم، وبدأت المباحثات بين الجانبين وانتهت إلى التوصل إلى" مشارطة تحكيم" فى 11 سبتمبر 1986 وهى تحدد شروط التحكيم ؛ومهمة المحكمة فى تحديد مواقع النقاط وعلامات الحدود محل الخلاف.
وبدأت المعركة الدبلوماسية والقانونية المصرية الخالدة ؛وتمسكت مصر بأن تحصر مهمة هيئة التحكيم فى سؤال واحد محدد مفاده أين الموقع الحقيقى لعلامات الحدود المتنازع عليها وعددها 14 علامة وأهمها العلامة 91؟ وهل قامت إسرائيل بتحريك هذه العلامات للتلاعب فى حقائق الأرض أم لا؟ لأن إسرائيل حاولت أن تجعل مهمة هيئة التحكيم بحث الحدود بين مصر وفلسطين تحت الانتداب.
وضم فريق الدفاع المصرى 24 خبيرا بينهم 9 من أقطاب الفكر القانونى إضافة إلى 2 من علماء الجغرافيا والتاريخ و5 من أكبر الدبلوماسيين بوزارة الخارجيةو8 من العسكريين وخبراء المساحة العسكرية؛وشكلت هيئة التحكيم من أكبر رجال القانون العالميين
وقدمت هيئة الدفاع المصرية آلاف الوثائق والمذكرات والأسانيد الجغرافية والتاريخية والقانونية ، حيث قدم الفريق المصرى" أسانيد ووثائق " تؤكد حق مصر التاريخى فى منطقة طابا, تمتد من عام1274 وحتى التقرير الشامل الذى قدمه الكابتن أوين عن عملية رسم خط الحدود عام1906, وتم بمقتضاها توقيع اتفاقية" بين مندوبى الدولة العليا ومندوبى الخديوية الجليلة المصرية بشأن تعيين خط فاصل ادارى بين ولاية الحجاز ومتصرفية القدس وبين شبه جزيرة طور سيناء"
كما قدم الجانب المصرى مجموعة من الأسانيد والوثائق التاريخية ؛من المندوب السامى البريطانى الى الخارجية المصرية؛ والمخابرات المصرية عام1914 وتقارير مصلحة الحدود فى عام1931 ،وزارت هيئة التحكيم بعض المواقع على الطبيعة فى سيناء .
أما إسرائيل فقدمت لهيئة المحكمه " أفكارا" استندت فيها إلى كتاب الإحصاء السنوى لمصر عن عام1906؛ومقتطفات من كتاب نعوم شقير باسم " تاريخ سيناء القديم والحديث وجغرافيتها" إضافة إلى وثائق من المخابرات البريطانية عن فلسطين وشرق الأردن تعود لعام1943 ومحاضر من اجتماعات وزارة المستعمرات فى عام1945.
وفى 29 سبتمبر 1988 أصدرت هيئة التحكيم التى انعقدت فى جنيف بالإجماع حكمها لصالح مصر وأعلنت أن طابا مصرية.
التعليقات