منظومة القيم الإنسانية التى تبلورت على مدى عقود انطلاقا من تعاليم الأديان وخبرات الانسان لتشكل ضمير الإنسانية، أصبحت اليوم محورا لجدل متصاعد بين الباحثين خوفا من التأثيرات السلبية لتطبيقات الذكاء الاصطناعى على تلك القيم، حيث تظهر كل يوم نتائج لهذه التطبيقات تؤكد تلك المخاوف وأحدثها الجدل الذى أثارته خلال الأيام القليلة الماضية، النسخة المطورة بواسطة الذكاء الاصطناعى لواحدة من أشهر الاعمال الفنية وهى لوحة (الفتاة ذات القرط اللؤلؤى) التى رسمها الفنان الهولندى يوهانس فيرمير عام 1665. ظهرت تلك النسخة المطورة فى معرض بمتحف فى لاهاى ومحور الجدل حول ما اذا كان للذكاء الاصطناعى مكان فى هذا المعرض الذى يضم أعمالا كلاسيكية.
والشاهد ان تطبيقات الذكاء الاصطناعى قد تقلب منظومة القيم بسبب الثقة الكبيرة جدا فى النظم الذكية والتى قد تجعل الناس يحاولون تقليد سلوكها وأفكارها، حيث يفكرون بطريقة تفكير الآلة ذاتها، فتحدث عملية محاكاة لأنماط تفكير الآلة، ويبدأ البشر فى تكوين وعى جديد يحاولون فيه تقليد وعى الآلة التى صنعوها بأنفسهم على نحو مشابه لما فعله أسلافهم منذ قرون عديدة حينما عبدوا آلهة صنعوها بأيديهم!.
وفى هذا المقال نناقش الأفكار المطروحة حول هذه القضية والقلق المتصاعد من ان تصبح التقنيات التكنولوجية المعتمدة على الذكاء الاصطناعى مصدراً للقيم الإنسانية، فقد يجادل البعض بأن وعى الآلة من خلق الإنسان نفسه، وأن المهندسين هم من قاموا ببرمجتها ووضعوا لها قيمها وسلوكياتها مسبقاً، لكن فى الحقيقة هذه الرؤية منقوصة. ويفندها الدكتور إيهاب خليفة فى ورقته البحثية (عقيدة الآلة..هل يصبح الذكاء الاصطناعى مصدرا للقيم) انطلاقا من أن الأتمتة تختلف عن الذكاء الاصطناعى تماماً، حيث يحاول المهندسون فى الأولى صُنع آلة تتبع منهجاً محدداً للقيام بوظيفة ما من خلال عدد من الخطوات المنطقية، كأن يقوم مثلاً روبوت يعمل داخل مخزن للبضائع بتنظيمها بطريقة محددة وفقاً لخطوط الإنتاج والتوزيع، فهذه أتمتة، أما فى حالة الذكاء الاصطناعى فلا يحاول المهندسون بناء وسيلة لتحقيق هدف، بل يبنون عقلا قادرا على التعلم واكتساب المهارة، وليس الحصول على أوامر مبرمجة سلفاً.
كما إن الأسلوب الذى يفكر به الذكاء الاصطناعى يختلف تماماً عن ذلك الذى يفكر به البشر، فهؤلاء محكومون بخبراتهم ومبادئهم الإنسانية ومنظومة المعتقدات والقيم التى يؤمنون بها والقوانين التى تحكم المجتمع، فى حين أن ما يحكم الذكاء الاصطناعى هو منطق رياضى بحت، يقوم على مبدأ تحقيق المصلحة. غير ان تحقيق المصلحة فى المفهوم البشرى يختلف عنه لدى تلك التطبيقات، فالآلة الذكية إذا وجدت مريضاً لا يُرجى شفاؤه سوف تخطو فوقه، وإن رأت موظفاً لا يقوم بعمله بكفاءة مثلما كان يقوم به من قبل سوف ترشح فصله من وظيفته دون نظر للأسباب التى جعلت منه موظفاً أقل إنتاجية.
لكل هذه الاعتبارات تطالب أودرى أزولاى المديرة العامة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) بتنظيم حوارات عالمية حول أخلاقيات الذكاء الاصطناعى، بحيث نضمن استخدام هذه التكنولوجيات الجديدة، لصالح مجتمعاتنا وتنميتها المستدامة، على أن تنظم تطبيقات الذكاء الاصطناعى بما تتوافق مع الحقوق الأساسية للإنسان. كما تدعو العديد من مراكز البحوث والجامعات والمنظمات الدولية إلى إطار أخلاقى لتطوير الذكاء الاصطناعى، بمشاركة المنظمات التابعة للأمم المتحدة. خاصة ان تلك المنظمات أصدرت تقارير وبيانات، فى هذا المجال، مثل تقرير اللجنة العالمية لأخلاقيات المعرفة العلمية والتكنولوجيا حول أخلاقيات الروبوتات الذى صدر فى عام 2017. وأخيرا ربما يكون الرادع الأقوى لتلافى الوقوع فى المنزلقات الخطيرة لتطبيقات الذكاء الاصطناعى هو الاعتصام بتعاليم الدين وما صدر عنها من قيم خلال وضع اطار أخلاقى لعمل هذه التطبيقات الذكية، باعتبار ان منظومة الدين القيمية من خارج حدود الانسان وما ابتكره من آلات ذكية قد تقضى عليه، أما ماديا ضمن فكرة الصراع بين الآلة والانسان التى تحدثت عنها أفلام الخيال العلمى والتى نقترب من تحققها فى الواقع الحقيقى بسب اكتساب الروبوتات الذكية القدرة على التعلم، أو تقضى عليه معنويا من خلال فرض نظام قيمى جديد صادر من بنات أفكار الآلة التى لا تعرف الرحمة، وليس من الإله الذى من صفاته الرحمن الرحيم!.
التعليقات