لم أكن أتوقع أن تنهمر دموعى بهذه الكثافة عند مشاهدة اللحظات الأخيرة لإغلاق إذاعة بي بي سي لندن عبر الأثير وكأن عهداً قد انتهى ومضى وكأني أصبحت كهلة وكأن هذا كان آخر مسمار في صندوق الذكريات الذي تفتت.
لن تصبح الحياة كسابق عهدها بالتأكيد. هذا الشعور الذي أعتقد أن كل مواليد الحقبة من الأربعينات إلى الثمانينات تعاني منها كل يوم ولا نستطيع مقاومته للأسف .
في أوائل الثمانيات أعتدت وأبناء جيلي أن نستيقظ على دقات ساعة جرينتش! لم أكن أعيش في منطقة ويسمنستر مثلاً ولكن في منطقة تبعد عن قاهرة المعز حوالي ساعة بالمواصلات ولكن كنت أستيقظ على دقات هذه الساعة العريقة ،والتى لم تتاح لي الفرصة حتى لرؤية صورة لها إلا بعد هذا التوقيت بكثير ! حيث كان يوقظني أبي الحنون بالتربيت الخفيف على قدماي مع تمام دقات الساعة الخامسة في لندن والتي كانت السابعة في القاهرة ، وكم كنت افكر في الصوت الذي يأتي من الراديو كم هو صوت دافئ في الصباح بالرغم من أنه يقول الأخبار التي قد تختلط كلماتها بالحروب والدماء والموضوعات التي يصعب علي طفلة في السابعة فك شفراتها،و قد يتشاءم منها المرء في الصباح ولكن الطريقة التي كانت تُلقى بها هذه الأخبار طريقة ساحرة ،يشوب صوت المذيعين فيها الاهتمام والدفء والتأثر عند قراءة الخبر ، وأحياناً الدعاء وتقديم التعازي لمستمعي الإذاعة الذين قد يشعروا بالأسى مع هذه الأخبار ودعم القضايا العربية الهامة مثل القضية الفلسطينة.
ويساعد على هذا أيضاً ثراء اللغة العربية الجميلة التي تأتي بها الأخبار من بلاد الضباب!
كنت أشعر بالفخامة عندما أسمع دقات ساعة بج بن وأشعر بالفخر عندما أسمع أبي يقول سمعتها في لندن وأقول في سري أنا أيضاً سمعتها هذا الصباح على إذاعة لندن.
وبدأت أسترجع جميع ذكريات ( الجيل X كما يُطلق علينا ) مؤخراً كيف تكونت لدي حصيلة لغوية لم أدري من أين هي إلا قريباً ، فأنا لا أقرأ بنهم مثل أختي التى كانت عندما تقوم بعمل منزلي مُستخدمة ورق الجرائد، كانت تنسى ما كانت تفعل وتقرأ ورقة الجرائد وتترك التنظيف، ولم أكن ممن نطلق عليهم (( دودة قراية )) لا لم أكن هذه الدودة كنت أقرأ أشياء كبيرة علي مثل حكايات أيسوب وكليلة ودمنة وبالطبع لم أكن أفهم المغزى لذلك توقفت على نهم القراءة واتجهت إلى برامج الراديو والتي كنت أشعر معها بتحدي كبير وتركيز أكبر فليس هناك صورة تشتتني ولكن احتاج إلى الانتباه لكل كلمة حتى لا أضيع.
كم كانت تربطني وأبناء جيلي وآباءنا أيضاً علاقة وطيدة ومعزَّة خاصة بهذا الصندوق الصغير (الراديو)، وكان من أهم الإنجازات إذا استطاع المرء ضبط الأثير ،وإيجاد شيئاً مسلياً للمتابعة ولم يكن البحث هنا عن شيئاً ذو قيمة أو لا ، لأن لم يكن هناك شك في نزاهة وقيمة كل ما نسمعه تقريباً.
كنا نستمع بعد أخبار لندن إلى برنامج أبواب السماء الذي يعطينا طمأنينة ويذكرنا بالاستبشار باليوم الجديد، ثم إلى إذاعة القرآن الكريم من القاهرة للشيخ مصطفى اسماعيل لمدة نصف ساعة ثم يأتي الصوت المصري الجميل ويقول بجدية إذاعة جمهورية مصر العربية من القاهرة ويبدأ الصوت الرشيق للفكاهي الجميل فؤاد المهندس يقول كلمتين وبس، والذي كان يتكلم عن مشاكل البلاد والعباد ، ثم تأتي أغنية صباحية لا تسطيع أن تمنع نفسك من الدندنة معها مثل يا صباح الخير يا اللي معانا، أو يجعل صباحنا صباح سعيد، ثم برنامج طريق السلامة الذي كان يعمل بمثابة Google maps الآن ويأتي صوت المذيعة الذي كان مألوفاً وكأنها جارتنا ، وهي تنبه قائد السيارة من الامطار و تعزز من القيم الرائعة وتدعو ايضاً وتقول (عزيزي المسافر صاحبتك السلامة).
وفي أيام الإجازات نستمع إلى برنامج الأطفال الشهير أبلة فضيلة وننتقل بمنتهى البساطة من الطفولة إلى الواقعية مع برنامج أُسري جميل اسمه عائلة مرزوق، وتأتي بعد ذلك الحكمة مغلفة بأصوات رقيقة للسائلة التى تبدأ كل مرة بقول ( كان لي صديق فيلسوف بأقوال الحكماء شغوف ... ) وصوت الحكمة من الفيلسوف بصوته الرَخِيم وضحكاته الرصينة.
وفي المساء كنا نُؤسر عند سماع برنامج لغتنا الجميلة للشاعر الراحل فاروق شوشة والذي كنت أعتقد أنه بالتأكيد هناك صلة قرابة بينه وبين أبي فهو بنفس الاسم وملامحهما متشابهه، أما في العطلة الصيفية فكان هناك فرصة للمزيد من الترفيه والاستماع إلى برنامج فني رائع (غواص في بحر النغم) والذي كان اسماً موفقاً جداً لأنه بالفعل كان يغوص في أعماق الألحان.
كل هذا وأكثر جاء في ذهني وكأنه جزء مني جزء من جيلي وجيل بدأ يذبل عند سماع خبر إغلاق إذاعة لندن وذكرني بأهمية وسائل الأعلام وما لها من دور عظيم في التربية نعم لقد تربينا وتعلمنا القيم والعلم والدين بدون دروس بدون مواعظ بدون جهد بل كانت تحاوطنا في كل الأوقات و في كل الوسائل ، وأخص بها الراديو لأنه كان يضفي سحر عدم معرفتك بالمذيعيين ويعطي فرصة جيدة للتخيل والبحث بعمق في شكل المكان إلى ملامح المذيعين.
سيستمر بث الأخبار والبرامج باللغة العربية الحبيبية من لندن ولكن بالصوت والصورة من خلال منصات التواصل بي بي سي نيوز عربي ومنصة هنا لندن ، لذلك لن يكون هناك فرصة لتخيل شكل المذيع والمذيعة والانبهار عندما نراهم في برنامج تليفزيوني أو صورتهم في الجريدة ونقول لم أكن أتوقع أنه بشارب أو أن عيناها بهذا الجمال!
تبدل كل هذا وتراءت لي الورطة التي أصبحنا فيها لا أقول بيع معلوماتنا للشركات المُعلنة على وسائل التواصل ولا الذكاء الاصطناعي ولا الروبوت الذي سيحل محل الإنسان ولكن القيم هي ما فقدناه الآن أصبح الكل محاط بالتفاهات والتقليد واستخدام جمل الأفلام وإعادة تمثيلها ، نعم هناك ثورة معلومات ولكن هل هي ما نحتاجه ؟!
وأنهى هذا المقال بالكلمات الرقيقة التي ودع بها الإذاعي الكبير محمود المسلمي إذاعته العريقة (الزمن يتغير ولكن لا يتوقف) وأضيف على كلماته، بل يتوقف بموت الإنسان معنوياً وركونه إلي العادي والمتداول وعدم تركه أي إرث حب ومودة وعمل طيب يتذكره الآخرون من بعده.
ودمتم طيبين
التعليقات