جلست «كيان» في شرفتها المطلة على حديقة الأندلس الغارقة في الخضرة والألوان الزاهية، تتنسم عبير الكون وتكتب خواطرها الحائرة قائلة:
«يوم جديد، مثله مثل ما فات وأظنه لن يختلف عما هو آت، لا يخترق صمته الرهيب سوى رفيف أوراق الشجر وصوت يمامتى التي تأتينى كل صباح سائلة عن أحوالى وماذا أفعله على مدار يومى المتكرر منذ مائة عام، أنا هنا يا صغيرتى كما كنت أواجه التحديات بصمود وصلابة وأنفلت من أفخاخ العِناد وسقطات الجحود بثبات ويقين أنى على حق رغم تكاثر السُحب الرعدية على سواحلى، مازلت هنا أصطحب شجونى ومخاوفى في رحلة البحث عن الأسباب وأنا في كامل احتفاظى بنقاوتى، فلا يشبه أنفاس الصباح سوى الأرواح الصافية الوديعة، لكننى وصلت إلى ذروة التعب وبلغت قمة الإرهاق وأشعر أنى في غاية الوهن، منهكة إلى أقصى درجة، منزعجة إلى أبعد حد، ضاقت الدوائر واستحكمت حلقاتها وتعاظم الخذلان، أنا هنا لا ألتقط أنفاسى أبدًا، أحارب من أجل البقاء وأواصل السير من عثرة إلى أخرى، ولا أنكر أنى أتجاوز كل العثرات بنجاح، لكنى متعبة ومحتاجة جدًا إلى ميناء سلام تستقيم فيه كل الأمور على وتيرة آمنة بلا ضغائن أو خطط تدميرية من بشر صاروا سفراء للنوايا السوداء، بلا مبرر منطقى، فهل من العدل أن يتحول الاختلاف في الوجهات والاتجاهات إلى خلاف تكفيرى يتصاعد فيه البشر حتى يصل إلى (Level الوحش)، أنا لم أعد أحتمل أن أبقى هنا، كفانى صدمات، لابد أن أتحرك إلى هناك. سأقفز من الدور العاشر غير آسفة على ما تبقى...
■ يا إلهى هذه نافذة الطابق التاسع، هنا يعيش الزوج والزوجة السعيدان المعروفان في العمارة، ما هذا؟ إنهما يتشاجران بالأيدى ونظراتهما تقطر سُمًا وكراهية!.
■ يا إلهى هذه نافذة الطابق الثامن، أليس هذا الشاب الضحوك المعروف في العمارة، ما هذا؟ إنه يبكى بشدة ويبدو حزينًا منكسرًا!.
■ يا إلهى هذه نافذة الطابق السابع، إنها المرأة الأكثر نشاطًا وحيوية في العمارة، ما هذا الوجه الشاحب وما كل هذه الأدوية، إنها مريضة جدًا!.
■ يا إلهى هذه نافذة الطابق السادس، وهذا هو جارنا المهندس النابغة الذي تخرج منذ خمس سنوات ومازال يشترى سبع صحف يوميًا بحثًا عن عمل!.
■ يا إلهى هذه نافذة الطابق الخامس، ذلك الرجل العجوز الذي ينتظر أن يزوره أحد، وتحديدًا أولاده وبناته المتزوجون، لكن بابه لا يدق أبدًا!.
■ يا إلهى هذه نافذة الطابق الرابع، تلك هي جارتنا الأنيقة الجميلة تنظر إلى صورة زوجها الراحل منذ ثلاث سنوات وتبكيه.
■ يا إلهى هذه نافذة الطابق الثالث، أليس هذا الطفل الشقى الذي يشكو منه كل سكان العمارة من جراء مقالبه السخيفة؟!.. إنه يجلس وحيدًا في المنزل منتظرًا قدوم والدته التي دومًا تتأخر في عملها!.
■ يا إلهى هذه نافذة الطابق الثانى، هل يعقل.. إنها العائلة المرحة التي تتعالى ضحكاتها على السلالم، كل منهم يجلس بمفرده في عالمه الخاص منفصلين عن بعضهم البعض؟!.
■ يا إلهى هذه نافذة الطابق الأول، المطعم مغلق، لا زبائن ولا عمال بعدما كان يضج بالزحام؟
وأنا هنا قد وصلت للدور الأرضى، مازلت حية بعدما كتب الله لى عمرًا جديدًا، فقد نسيت أن العمارة على شكل متدرج يحاكى هرم الملك زوسر، حيث يفصل بين كل طابق وآخر مسطح عريض لا يسمح لأحد بأن ينتحر، لكى يتيقن من الرسالة بأن الحقيقة ليست كما تبدو في العلن، هناك خفايا خلف الأبواب لا يعلمها سوى الله، وما تراه أفضل منك حالًا ربما هو أكثر بؤسًا وشقاءً، فالحمد والشكر لك يا الله أنى هنا، وسأبدأ من جديد قائلة: (لما المخلوق يتخلى... الخالق يتولى)».
التعليقات