لم يكن الشاب المصري عبدالله عبدالجواد - صاحب الصورة الشهيرة التي يقود فيها الحفار الصغير وهو يُحاول تحريك السفينة العملاقة "إيفرجيفن" الجانحة في قناة السويس - يعلم أن قصته ستكون مُلهمة للعالم، تلك القصة التي سخر منها نصف سكان الكرة الأرضية.
القصة حظيت بمتابعة كبيرة من وسائل الإعلام العالمية للحفار الصغير الذي يُحاول أن يرفع الرمال من حول السفينة التي يبلغ عرضها 59 مترًا، وطولها 400 متر، وقد أخذت وسائل الإعلام هذه في طرح أسئلة لا تخلو من السخرية إلى أن نجح بالفعل ابن قرية دنجواي التابعة لمركز شربين بمحافظة الدقهلية في تعويم السفينة.
على الجانب الآخر قرر الأمريكي "رايان بيترسون" الرئيس التنفيذي لشركة الشحن بسان فرانسيسكو، والذي كان يُتابع عن كثب أخبار تعويم سفينة الحاويات العملاقة "إيفرجيفن"، كتابة قصة السفينة الكبيرة والحفار الصغير، رغم أنه ليس كاتبًا.
وأصبحت القصة من ضمن القصص المُلهمة للأطفال، حيث تسعى إلى ترسيخ معاني الثقة بالنفس مهما كانت العقبات كبيرة، حتى ولو سخر منك نصف العالم فيما يضحك النصف الآخر عليك، وهذا ما حدث بالفعل مع عبدالله سائق الحفار الصغير.
وقد حملت القصة عنوان the big ship and the little digger السفينة الكبيرة والحفار الصغير، وقرر "رايان" تخصيص ريعها لدعم مرضى فيروس كورونا في الهند، حيث يبلغ سعرها 25 دولارًا أي ما يُعادل 400 جنيه مصري.
لكن الأكثر إلهامًا، وربما إيلامًا هنا، هو كيف تُلهم قصصنا الآخرين، ولا تُلهمنا نحن؟ لن أتحدث عن القصص المُلهمة؛ لأن لدينا الآلاف وليس المئات، لكن السؤال الأهم الذي طرحته قصة "الحفار الصغير"، هو: "أين نحن من أدب الطفل؟!"، و"لماذا تراجعنا خلال الخمسين سنة الماضية؟"، و"هل لدينا جيل جديد من كُتاب وأدباء الطفل أم أن أدب الطفل لم يعد على خريطة الثقافة المصرية؟"، هذا على الرغم من ريادتنا، التي يؤكدها حجم إنتاجنا الفكري والأدبي الذي استهدف الأطفال خلال الفترة من عام 1870 حتى عام 2018، والذي بلغ 13250 (ثلاثة عشر ألفًا ومائتين وخمسين عملًا إبداعيًا)، هذا خلاف ما لم يتم توثيقه.
وقد جاء هذا الزخم الأدبي بفضل كُتاب وأدباء أمثال "عبدالتواب يوسف" و"محمد عطية الإبراشي" و"كامل كيلاني" و"يعقوب الشاروني" و"ملاك لوقا" و"أحمد محمود نجيب".. وغيرهم العشرات مع حفظ الألقاب.
كما هناك "حمزة النشرتي"، و"خليل حداد"، و"محمد صبري"، "السيد شحاتة"، و"محمد علي قطب"، و"مرزوق هلال"، الذين كتبوا قصصًا دينية، و"راجي عنايت"، و"رؤوف وصفي"، و"مها مظلوم خضر" من كُتَّاب الخيال العلمي، والقائمة طويلة لا أستطيع حصرها.
ورغم ذلك شهدت مكتبة الطفل تراجعًا كبيرًا، ومازلنا نعتمد على الإنتاج الأدبي للطفل الصادر قبل أكثر من 50 سنة.
نفس التراجع شهدته صحافة الطفل في مصر، والتي كانت في مقدمة دول العالم التي اهتمت بهذا النوع من الصحافة بعد فرنسا التي أصدرت أول صحيفة للأطفال عام 1830، فيما أصدرنا نحن أول صحيفة للطفل في الوطن العربي عام 1870 والتي دشنها رفاعة الطهطاوي بعنوان "روضة المدارس"، ثم خرجت للنور في عام 1897 مجلة "السمير الصغير"، ومجلة "الأولاد" الأسبوعية عام 1923، وتبعها مجلة "الأطفال"، و"بابا صادق"، و"ولدي"، ومجلة "السندباد"، ومجلة "البلبل"، ومجلة "بابا شارو"، وغيرها.
وفي عام 1956 صدر العدد الأول من مجلة "سمير" عن دار الهلال لتخاطب الطفل في مصر والعالم العربي، وترأّست تحريرها "ناديا نشأت" حفيدة مؤسس الدار، وفي عام 1966 حتى عام 2002 رأست تحريرها الكاتبة الراحلة نتيلة راشد أو "ماما لبنى"، التي تُعد من أهم من كتبوا للطفل في مصر والعالم العربي، وفي عام 1961 أصدرت دار الهلال مجلة "ميكي" الشهيرة كنوع من المنافسة الداخلية، فيما تعتبر مجلة "علاء الدين" التي أصدرتها مؤسسة الأهرام عام 1993 أحدث مجلة متخصصة للأطفال، وربما آخر مجلة متخصصة تصدر للأطفال.
تاريخ طويل لأدب وصحافة الطفل، لا نستطيع أن نختزله في أسطر هذا المقال، تاريخ يستحق أن نسأل: "أين نحن منه الآن؟!"، وكيف نُعيد أدب الطفل إلى مجده القديم، عندما كان لدينا كُتاب بقيمة الأديب الراحل توفيق الحكيم يكتبون للأطفال من أجل أن تُخلد ذكراهم، وهذا ما أكده في مقدمة مجموعته القصصية التي استهدفت الأطفال "حكايات توفيق الحكيم للصبيان والبنات"، والتي سجلها بصوته، وقد طرح سؤالًا مفاده: "لماذا أكتب للأطفال؟ ولماذا أخاطبهم بصوتي؟"، وقد أجاب قائلًا: "لأن المقصد عندي هو أن أتيح لهم الاحتفاظ بوثيقة أدبية تجعلهم يقولون في القرن المقبل وقد بلغوا الثلاثين: نحن نحتفظ بصوت كاتب كان معروفًا في القرن الماضي".
وقد وصلت قُدسية أدب الطفل إلى خوف الأديب العالمي نجيب محفوظ من عدم القدرة على تلبية احتياجات الأطفال، وعندما طُلِبَ منه أن يكتب للأطفال، قرر الابتعاد واعتبره نوعًا أدبيًا يندرج تحت فكرة السهل الممتنع.
لدينا أضلاع ثلاثة لمثلث أدب الطفل تتمثل في الطفل القارئ أو الأسرة الواعية، وجهة النشر، والكاتب، وأعتقد أن لدينا أزمة حقيقية في الأضلاع الثلاثة، فالطفل لا يجد ما يُحفزه على القراءة في ظل وجود الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي والطفرة التكنولوجية الكبيرة في وسائل التعلم، وبالتالي نحتاج إلى تطوير وسائل جذب الطفل مرة أخرى للقراءة، عبر تطوير ومواكبة أدواتنا من خلال كُتب أكثر تفاعلية.
أما الضلع الثاني فهو الجهة المسئولة عن النشر، وهنا يجب أن تدعم الدولة عبر مشروع قومي ثقافة الطفل، والتي ربما لم تعد تُحقق الأرباح التي تجذب دور النشر الخاصة، وربما في مراحل قادمة بعد أن تعود أمجاد ثقافة وأدب الطفل، ويصبح لدينا طفل قارئ وأسرة واعية، تعود مرة أخرى دور النشر الخاصة لتتنافس فيما بينها على التعاقد مع كُتاب وأدباء الأطفال.
أما الضلع الثالث فهو قائم تلقائيًا على الضلعين الآخرين، فالمُبدع دائمًا يحتاج إلى المناخ الذي يُحفز إبداعه، ولن يكون هناك مُحفز أهم من قارئ شغوف، وناشر واعٍ.
أعتقد أننا سوف نشهد قريبًا جدًا عودة أدب وثقافة الطفل في مصر لسابق عهدها وريادتها، لا سيما في ظل ما نعيشه الآن في مصر الجديدة من حراك تنموي يطال كل المجالات، وفي ظل حكومة تعي جيدًا أهمية ثقافة الطفل، وتُدرك أهمية وقيمة استثمار النشء في رسم المستقبل.
كلمة أخيرة للأديب الكبير توفيق الحكيم:
إن أدب الأطفال له أثره البالغ وله أهميته المتميزة في الحياة المعاصرة والمستقبلية.
mhmd.monier@gmail.com
التعليقات