لكل شاعر ناصٍّ مريدون يستمتعون بمطالعة نصوصه ويُقبلون عليها . ومن خلال معايشاتي للنصوص ومتابعة أثرها على جمهور التَّلَقِّي، أصبح يعنيني كثيرًا أنَّ أُنَظِّرَ للنَّصِّ الشعري من زاوية عينِ جمهوره الذي يتابعه، وهذا في حقيقة الأمر يساعدني كثيرًا في الإمساك بأحد خيوط الحكم على ذلك الشاعر أو نصوصه.
ومنذ عدة أيام دفع لي صديق بقصيدة للشاعر "محمد عبد الله البريكي" عنوانها "وحيدًا كَظِلِّي" وطلبَ مني أنْ أقرأَها مؤكدًا لي أنها ستشدُّنِي لما تحمل من مكامنَ إبداعيةٍ، خاصة وهو يعلم ميولي الشعرية جيدًا.
أخذت القصيدة وبدأت في التَّفَرُّس فيها وقراءتها وكعادتي دائما لا أبدأ في تدوين قراءتي لنصٍّ إلا بعد طول تَمَعُّنٍ ومحاولة للدخول في عالم النص اللامرئي والتعايش مع خيوطه الخلفية.
وقد فعلت ذلك مع النص وأثناء معايشتي التصاعديه مع النسيج الدرامي للنص قفز على سطح خيالي مقولة الناقد الألماني التعبيري (لوثر شراير): "إن التعبيرية هي تلك الحركة الروحية الموازية لسير الزمان والتي تضع الكيان الإنساني للفرد بثوابته فوق اعتبار وضعه الاجتماعي بمتغيراته ؛ فهي تتناول الإنسان ككيان حي وخلاق ومتكامل كي لا يستنفذ التعبير الفني دلالته المتجددة دومًا"
إن بداية النص :
كثيرًا تأخَّرتُ والوعدُ فاتْ
فأينَ ستمضِي بِيَ الأُمنِيَاتْ
متى تَنْتَهِي رحلتي في الغيابِ ..
وتَشْهَدُ لي ضحكتي في الجِهَاتْ
هنا أدركت أنني أمام نص يدور في فلك (المدرسة التعبيرية) وهي مدرسة ترفض أي ميل زخرفي للفن ولذلك فهي لا تصلح لمتلقي التسلية الذي لا يريد إعمال فكره، إنما هي تحتاج نظرة تأملية فلسفية وجمهور خاص يستطيع أن يتلقاها على نحو خاص.
وأدركت لماذا صديقي هذا بالتحديد قد نبهني لذلك النص وطلب مني قراءته ؛ فصديقي هذا من ذلك النوع من جمهور التلقي الذي يذهب إلى إعمال فكره عند تلقيه النص ويعرف أني مثله، هذا حقيقة ما كنت أعنيه في بدء قراءتي تلك بقولي : "أصبح يعنيني كثيرًا أن أُنَظِّرَ للنص الشعري من زاوية عين جمهوره الذي يتابعه".
وكي لا أذهب كثيرًا في السرد فإنني سوف أُنَظِّرُ قليلاً لمفهوم المدرسة التعبيرية ثم أذهب للوقوف على مكامن إبداع هذا النص التعبيري الراقي.
إن المدرسة التعبيرية قد بدأ ظهورها في المسرح على يد الكاتب الألماني (فرانك فيدكايند) الذي أثارت مسرحياته ضجة كبيرة في العقد الأخير من القرن التاسع عشر والعقد الأول من القرن العشرين نتيجة استمعالها الأقنعة لأول مرة منذ المسرح الإغريقي الروماني القديم وأضافت إلى استعمال الأقنعة توظيف الرموز بجميع أنواعها لإعطاء العرض الدرامي أكبر شحنة من الانفعال والتكثيف والمعنى والاستغناء عن الحوار المباشر التقليدي وهذا بدوره قد أدى إلى التركيز على المونولوج أو المناجاة النفسية , وبدأت الذات المبدعة تعبر عن مكنونات نفسها بعيدًا عن قيود الحوار أو الديالوج والتي غالبًا ما تُحَتِّمُ على الإنسان أن يَتَكَتَّمَ حقيقة ما يدور داخله لاعتبارات اجتماعية لا حصر لها ..
لكنني هنا ومع بدء قراءتي لهذا النص لـ "محمد عبد الله البريكي" فقد شعرت أنه يسعى إلى إسقاط تلك الاعتبارات الاجتماعية ؛ لأنه أراد أن يفسح الطريق لتلك المناجاة النفسية فيعلن أنه قد تأخر كثيرًا في التعبير عنها حتى إن الوقت قد فات ومضى متسائلًا إلى أين ستذهب به تلك الأمنيات التي لم تَعُدْ مجرد كونها أمنيات لم تطأْ أرضَ الواقع لتتحولَ إلى حقيقة , لقد قَرَّرَ البريكي أن يفسحَ المجال لذلك المونولوج محطمًا كل الاعتبارات الاجتماعية حتى ترى نفسه وأمنياتها النور من خلال النص الشعري فتكون وكأنها لأول مرة ترى النور , ثم يواصل تساؤله قائلا :
متى تنتهي رحلتي في الغيابِ
وتشهدُ لي ضِحْكَتِي في الجِهَاتْ
إنه سؤالُ قرارٍ وليس سؤالَ حيرةٍ , لقد تساءل البريكي رغبة في تحطيم قيود العجز والتكتم على حقيقة ما يدور بداخله ولأول مرة سيتغافل عن تلك الاعتبارات الاجتماعية التي كانت تدفعه إلى ذلك التكتم وذلك الحرص.
إن أحلام اليقظة لم تعد مُرْضِيَةً لنفس الشاعر وانغلاقه على نفسه وغلق كل منافذ النور عليها فلم يعد يحتمل ؛ لذلك فقد آن الأوان للتعبير عن مكنون تلك النفس وإخراجه إلى النور لأنه اكتشف أنه قد أصبح في النهاية :
غريبًا تَوَضَّأْتُ باللَّا حُضُور
فَمَنْ سوفَ يقبَلُ هذي الصَّلَاةْ
إن الزمان لم يعد زمان التكتم والتطهر من خلال تغييب الذات عن رغباتها وتطلعاتها فذلك لم يعد مقبولا . فمن ذا الذي سوف يقدر تلك القيمة التي أصبحت غير معترف بها في هذه الأيام , فالناس لم تعد تعترف بالبريء المتطهر المنغلق على ذاته متساميًا عن رغبات النفس , إن تلك القيم لم تعد تلقى قبولًا إلا عند أصحابها فقط فلم تَعُدِ السلعةَ الرائجة في هذا الزمان .
إن أهمية النص التعبيري تكمن في ابتكار إمكانات التعبير المختلفة وربط الحوار ودلالته بإيحاءات وعناصر تتمثل في القناع والرمز والخلفية والضوء واللون والموسيقى والحركة وطريقة إلقاء الحوار والمونولوج فيتحول النص وكأنه خشبة مسرح يحاول الناصُّ أن يستفيد من كل شيء يمكنه القيام به بالتعبير الدرامي المكثف عن المضمون بأدواته الخاصة به فليس في النص زخرفة في المشاهد أو الإطناب في الحوار أو الحركة .
لذلك نجد البريكي من خلال عرض مشاهد ذلك النص الذي تحول أمامي خشبة مسرح يعرض عليها ذلك المونولوج قد استغنى عن صخبِ زخرفةِ المشاهدِ كما استغنى عن الإطناب الحواري والحركة ولجأ إلى عناصر القناع والرمز والخلفية والضوء واللون والموسيقى .. إلخ
فحين أطالع النص داخلا في عالمه أرى :
خُشُوعي بها بينَ خوفي وَشَكِّي
وبينَ المَنَافِي وبينَ الشَّتَاتْ
إن حركة الخشوع هنا حركة أداء مسرحي تعبيري حيث تأخذني إلى تلك الحركة المعبرة عن الاستسلام والرضا بالقضاء , ثم حركة التأرجح بين الخوف والشك , ثم حركة الرحيل من منفىً إلى آخرَ وحياة التبعثر في الشتات النفسي فكأنه قد أحال المشهد إلى دراما مسرحية ترسم لنا تلك الحركة المسرحية المعبرة دون صخب الزخرفة وضجيج الحوار , إنه مونولوج هادئ الإيقاع لا يحتاج سوى إعمال الفكر ومحاولة التأمل لمعايشة الحدث ومن ثم فإن جمهور التسلية لا علاقة له بهذا المشهد الدرامي المفعم بالفلسفة الممررة من خلال الحركة .
ثم لجوء البريكي للقناع التعبيري الذي جعل منه رمزًا للظهور بمظهر المتصبر الزاهد وهو في حقيقة أمره له رغبات نظرائه من البشر ولكن الاعتبارات الاجتماعية دفعته إلى التكتم وارتداء قناع الزهد والتَّصَبُّرِ يقول :
لَعَلِّي تعلَّقْتُ بالصَّبْرِ يومًا
فَعَلَّقَنِي الصَّبْرُ بالمُعْضِلَاتْ
إن التعلق بالصبر يمثل ذلك القناع التعبيري الذي ارتداه البريكي في نصه ليجعل منه رمزًا لذلك التكتم محاولًا إظهار وجه التَّصَبُّرِ للناس والزهد عما هم يرغبون فيه وكأنني أرى مُمَثِّلًا يقف على خشبةِ مسرحٍ تعبيريٍّ يتحدث من خلف ذلك القناع ليخبرَني كَمُتَلَقٍّ بذلك المنولوج الذي يجسد الصراع النفسي بين (الأَفْعَل) و (اللَّاأَفْعَل).
وأَسلَمَنِي حُلْمُ عُمْرِي لقَهْرِي
وَكَبَّلَنِي الوَهْمُ بالقَادِمَاتْ
إن الموسيقى من أهم أدوات الفن التعبيري , فبما أنه لا يعتمد على الحوار الصاخب الخارجي وإنما يَتَّكِئُ على المونولوج الداخلي فكان لابد من حسن اختيار الموسيقى التعبيرية . لقد اختار البريكي موسيقى البحر المتقارب والتي تقوم على إيقاع (فعولن) متكررة بوَتَدٍ مجموعٍ ثُمَّ سَبَبٍ خفيفٍ والتي أطلقتُ عليها في أحد بحوثي الموسيقية اسم "التفعيلة اللاهثة" وكأن البطل النصي هنا – محمد عبد الله البريكي – يقبع في أحد أركان المسرح يدير المونولوج فيما بينه وبين نفسه لاهثًا لاهجًا قد أصابه الإعياءُ والإنهاكُ فجاءت تفعيلة المتقارب اللاهثة كأروع موسيقى تصويرية تعبيرية مصاحبة لهذا الحدث الدرامي .
وحيدًا كَظِلِّي الذي لا يُفَرِّقُ
بينَ النَّوافِذِ والنَّافِذَاتْ
تخيلتُ نفسي هنا أجلس في الصف الأخير في مسرحٍ ديكورُهُ عبارة عن خلفية مكونة من نوافذ معتمة لا ينفذ منها سوى ظلال وأشباح تمثل الأمنيات ورجل يقبع في أحد أركانه لا يقيم معه سوى ظلٍّ يخاطبه هذا الرجل ثم سقط في نفسي مدى الوحدة التي يعانيها داخل غرفة نفسه المعتمة التي تجسد لي مسرحًا كامل الأركان , فالضوء الخافت والموسيقى والحركة والخلفية وطريقة إلقاء الحوار اللاهث المُتْعَب , كل ذلك أدخلني عالم النص وجعلني أعايشه بذلك الهدوء النفسي المُمْعِن في الفلسفة والذي يحتاج جمهورًا مسرحيًا يتابعه فمثل هذا النص لا يحتاج إلى جمهور التسلية كما عبرت من قبل.
ثم يواصل البريكي تقديم كل وسائله التعبيرية في هذا النص ليجعل منه "مسرحية تعبيرية" غاية في الإتقان يقول :
رجعتُ إلى خيبةٍ في الطريقِ
تُؤَمِّلُ قلبي بما هو آتْ
إنه يمثل لنا حركة العودة التي حملت معها خيبة تحقيق الآمال ولكنها ما زالت تعيش تحت قناع التَّصَبُّرِ الذي عبر عنه الشاعر آملًا أن ما هو آتٍ سيكون جديرًا بهذا التصبر وكأنه قد أَدْمَنَ هذه الحال من التصبر والسكينة والهدوء ومحاولة التطهر خلف قناع هذا الصبر .
كحُزنِ المُسَافِرِ يتلو الدُّمُوعَ
وقوفًا على سُلَّمِ الطائراتْ
لقد رسم لنا مشهد المسافر الذي يقف على سلم الطائرات مودعًا عالمه أو قادمًا إليه حاملًا كل الأمنيات العذاب التي لا تلبث أن تتلاشى شيئًا فشيئًا ولم ينس البريكي أن عنصر الصوت من أهم عناصر الفن التعبيري فجعل للدموع صوت التلاوة وكأنها صوت الحزن والغربة تتردد في تَمْتَمَاتِ المُصَلِّي .
كوجهِ البراءةِ تلهو بشوقٍ
وتغتالُ فرحتَها القاذِفاتْ
لماذا تأخَّرْتَ ؟ قالَ : احتضاري
لأبحثَ عن شرفةٍ للنَّجَاةْ
لأوهِمَ أغنيتي بالبقاءِ
لكي لا تحاصِرَنِي النَّائِحَاتْ
وهذا المشهد الرمزي غاية الإتقان فقد حوله هذا النص التعبيري إلى رموز تحيل على خبرات مؤلمة لدى نفس الشاعر فـالطائرات ووجه البراءة والقاذفات و"لماذا تأخرت؟" ومن سأله هذا السؤال والنائحات .. كل تلك رموز يسقط بها الشاعر على معاناته وتموجاته النفسية التي هي على عنف ما تحمله إلا أنها ما زالت تُصِرُّ على "قناع التصبر" فتخرج لنا في تلك الوداعة المصطنعة لأنها تريد أن تفجر وتحطم ذلك القناع من التصبر المصطنع لتخرج في صورة بركان ثائر صاخب.
أنا دربُكَ المُسْتَبِدُّ .. عدوتُ
على الشَّوكِ والجَمْرِ بالأغنياتْ
وأطلقتُ من عُشِّ حرفي طيورًا
فعاشتْ على ظمأٍ في الفَلَاةْ
ظمئتُ ونهرُ الحياةُ بقُربي
كَمَنْ مَاتَ قُرْبَ عيونِ الفُرَاتْ
إن من التعبيريين من يرى أن مهمة الأدب هي تنشيط عقل الإنسان ووجدانه ومنعهما من الركود والبلادة وليس مجرد تقديم صورة لما يراه الإنسان بالفعل في حياته اليومية وعلى رأسهم (هايسن كليفر) و (ج. توللر) وهؤلاء يمثلون "التوجه التطبيقي" للتعبيرية .. وهذا المشهد تتحقق فيه تلك المقولة فقد نجح البريكي في دفعي كمُتَلَقٍّ إلى تنشيط عقلي ووجداني باحثًا عن مصدر ذلك المونولوج متسائلًا : هل الشاعر يخاطب نفسه أم أم هناك من يخاطبه ؟ أهذا الحدث الدرامي المجسد في ذلك المونولج مشهد واقعي أم من اختلاق خيال الشاعر الناص ؟ ثم انشغل ذهني بذلك الصوت الحواري الذي يجسد أمامي العثور على اللاشيء والحصول على السراب رغم وجود كل وسائل الحياة إلا أن النتيجة كانت لا شيء .
أقولُ وقد شابَ مَفْرِقُ رأسي
تموتُ الأماني على الطاولاتْ
تقولُ المريجةُ : عدتَ بدونِكَ
مَنْ سوفَ يحملُ تلكَ الرُّفَاتْ ؟
وهل سوفَ تلقاكَ عند الشواطئِ
دمعةُ شوقٍ مِنَ الأُمّهاتْ
غريبًا وقفتُ وظِلِّي تَمَنَّى
بأنْ لا يموتَ فَمِي في المَمَاتْ
لا أدري ما الذي أشعرني هنا أن الشاعر أراد أن يجسد صوتَ مُحَارِبٍ عائدٍ من حربٍ طويلةِ الأَمَدِ ظانًّا أنه قد عاد محملًا بأكاليل النصر ولكنه صُدِمَ بأنه لم يفعل سوى مصائبَ أصابت الناس بالكوارث وكأنه كان يحسب أنه يُحْسِنُ صنعًا فجاءت النتائج مخبيةً لآماله.
وقد أحالني ذلك إصراره على استخدام رمز "المريجة" التي استقبلته معاتبة إياه على تلك الرُّفَاتِ التي خلفها فيها أو تقبع فيها وهو يريد أن يحكي الحكاية ويتمنى ألا يموت قبل أن يحكيها، و"المريجة" مدينة غرب الشارقة وهي الأكثر شهرة لأنها تعد أقدم المدن وارتبط ذكرها ببعض الأساطير بالرغم من أن ساكنيها من رجال الإعلام والمرموقين والعائلات الكبرى، وتلك الأساطير التي ارتبطت بها تدخل ضمن أقسام الأدب الشعبي تحت باب الحكايات الخرافية.
حقيقة ! لقد استمتعت بنص تعبيري من الطراز الفريد الذي يخبر بأن مهمة الأدب هي تحرير روح الإنسان من ربقة الواقع التقليدي الذي غالبًا ما يعاني الأفق الضيق الخانق الذي يفقد الحياة معناها الحقيقي.
وفي الخاتمة أتذكر قول الروائية الأمريكية التعبيرية (إيلين جلاسجو) : "إنني أكتب رواياتي من خلال عيون وعقلية البطل أو البطلة" .. لقد كتب لنا محمد عبد الله البريكي نصه هذا من خلال عيون وعقلية بطلِهِ الذي مثل لنا ذلك المشهد المسرحي داخل إطار نصي شعري.
التعليقات