كنا قد توقفنا في الحلقة السابقة من سلسلة حلقات رحلة أحمد حسنين باشا التاريخية إلى الصحراء الغربية، عند وصوله والقافلة إلى واحة جغبوب الليبية، لكن قبل سرد تفاصيل الفترة التي قضاها أحمد حسنين بالواحة، أود أن أشير إلى ثلاثة أحداث شكلت فألاً حسناً بنجاح الرحلة، وكلها أحداث راسخة في تراث القبائل الصحراوية، وأولها حدث في اليوم الخامس من مغادرة السلوم، عندما شاهد أحمد حسنين غزالاً يرعى على مقربة من القافلة فتعقبه وأطلق عليه النار فأصابه في مقتل، وعندما عاد للقافلة حاملاً طريدته استقبله رجال القافلة بصراخ الفرح والتهاني مع التلويح بأيديهم؛ لأنهم يعدون أول طلقة من قائد القافلة على طريدة بعد بدء التحرك دليل نجاح أو فشل الرحلة؛ فإن أخطأ الهدف أصاب القافلة مصيبة قبل انتهاء الرحلة، أما إذا أصاب ابتسم الحظ للقافلة. أما الحدث الثاني فكان أثناء اتجاههم غرباً إلى واحة جغبوب، حيث وجدوا تمراً منثوراً في طريقهم، وكان من الواضح أنه تناثر من بائع أثناء ذهابه للسوق، والبلح المنثور في طريق قافلة فأل حسن، وعلم أحمد حسنين أنه أحياناً يقوم الأصدقاء بنثر البلح على خط سير القافلة التي تضم الأحباب والأصدقاء حتى يعثروا عليها ويستبشروا خيراً. أما الحدث الثالث فكان مقابلة شيخ السنوسيين السيد إدريس ومباركته لرحلتهم بتلاوته آيات من القرآن الكريم والدعاء لهم بالتوفيق، وهو ما بث في نفوس الجميع الأمل بنجاح الرحلة وسلامتها من كل خطر. وواحة جغبوب قليله النخل ومعظم مائها غير عذب والتربة غير صالحة للزراعة لكنها كانت تتميز بجمال خلاب وساحر، وكان لموقعها ثقل سياسي مهم في هذا القطاع، وهو ما دفع السنوسية إلى اتخاذها مقراً لهم مما سهل هدفهم في وقف الغارات المتبادلة بين قبائل الشرق والغرب وإنهاء العداوات القديمة، وكان لوصول قافلة حسنين باشا لواحة جغبوب أثر عميق في نفسه، فقد كانت هذه الزيارة الثانية لهذه الواحة خلال عامين. واضطر هذه المرة للإقامة بالواحة نحو خمسة أسابيع بسبب مشاكل واجهته بخصوص استئجار إبل، وأيضاً لأنهم وجدوا فيها مناظر خلابة وهدوءاً ونقاء، وخلال إقامته بها مر بتجارب حميمة من أنواع الضيافة والترحيب من كبار الواحة، وانهالت عليه الولائم المتنوعة. وبالواحة التقى أفراداً من قبيلة الباراسا الذين يعتبرون نبلاء قبائل الصحراء. وقد واجه حسنين باشا مواقف طريفة جداً كما واجه أيضاً حرجاً شديداً بسبب الإصرار الدائم على أهمية التهامه لمعظم الأطعمة المقدمة له حتى لو شبع لأن عدم الأكل وعدم إعلان الاستحسان يعد إهانة للمضيف مما اضطره إلى تناول عقاقير مهضمة فور فض المضيفة واستقلاله بنفسه في خيمته. وأكد حسنين باشا أنه كان يهنأ بنوم لا يذوقه سكان المدن بسبب تمتع الواحة بالهدوء والنقاء. وفي اليوم الـ31 من إقامته وبمحض الصدفة دخلت قافلة للواحة يقودها رجال قبيلة الزوي ومعهم عدد كبير من الإبل وبعد مفاوضات ومقابل مبلغ مالي كبير وافقوا على إعطائه إبلهم، ومن ثم تحركت القافلة مغادرة جغبوب في الـ22 من فبراير 1923 متجهة للغرب إلى واحة جالو. والجدير بالذكر أن رجال قبيلة الزوي لا يألفون الأجانب ويرفضون الاختلاط بهم، لكنهم أقدر الرجال على قطع الصحراء وأعلمهم بطرق السير فيها. تحركت القافلة إلى واحة جالو وسط عاصفة رملية وهي ظاهرة طبيعية يتفاءل بها العرب، فالقافلة التي يصاحبها في البداية عاصفة غالباً ما يكون نصيبها التوفيق، وثارت الرمال لتلطم الوجوه وتلدغها مع تطاير الحصى، وكانت السماء مغيمة فلم يكن يرى إلا أشباح الجمال القريبة منهم، ومع ذلك يرى حسنين أنه ليس في وسع الإنسان في هذا المناخ القاسي أن يبقى مفتوح العينين ولا يستطيع أن يغمضها، فلئن كان لدغ حبات الرمال شراً وبلاء إلا أن فقد الطريق شر أعظم وبلاء أكبر.
كان أفراد القافلة يغطون وجوههم بالكوفيات، فإذا هدأت العاصفة الرملية لثوانٍ، كشفوا عن وجوههم وألقوا نظرة سريعة لتحديد الاتجاه والتأكد من الطريق ثم استعدوا لمواصلة الرحلة وهكذا. ومن الأمور المهمة الواجب الالتزام بها هي عند هبوب زوبعة أو عاصفة رملية فالواجب التحرك والاندفاع في السير مهما كانت الظروف، فالزوابع والعواصف الرملية إذا أصابتا شيئاً ثابتا ًسواء كان رجلاً أو جملاً أو عموداً تسببا في تراكم الرمال من حوله، وهكذا فإذا كان في السير عذاب وأهوال ففي الوقوف الموت المحقق.
وسيلاحظ المضطلع على كتب ومذكرات وسيرة أحمد حسنين باشا مدى حرصه على تسجيل كل كبيرة وصغيرة بدقة متناهية لإفادة كل من يتبعه في مثل هذه المغامرات والرحلات الصحراوية. وقد استمرت العاصفة نحو 6 ساعات كاملة في اليوم الأول في طريقهم لواحة جالو، وقد لاحظ أن الإبل لم تتوقف قط بسبب هذه العاصفة القاسية واستمرت في السير ببطيء، فغريزتها تجعلها تتوقع الموت إذا توقفت عن السير فهي كائنات ذكية جداً.
وقد واجه الرحالة المصري العظيم حسنين باشا أثناء رحلته من جغبوب إلى جالو عدة زوابع رملية، بعضها كان خطيراً، وقد كشفت الصحراء عن وجهها الجميل وسحرها عند سكون هذه الزوابع والعواصف وظهور القمر؛ لتأخذ شكلاً جديداً تحت ضوئه السحري الباهت، ومن ثم يجتمع أفراد القافلة حول نار الحطب لتناول الشاي بعد العشاء، ثم يجلسون حول النار المشتعلة يتسامرون فيبدؤون في قص القصص والطرائف وتنطلق الضحكات والتعليقات ثم الغناء العذب، وبعد الانتهاء من الغناء يسود المكان سكون. وقد مرت القافلة على غابات متحجرة كانت منذ أجيال بعيدة أشجاراً نامية ولكن عوامل الطبيعة نقلتها من مملكة النبات إلى مملكة الجماد، واضطرت القافلة عدة مرات إلى الخروج عن خط السير لبلوغ بقاع عشبية لكي ترعى إبلها. وبعد عشرة أيام من مغادرة واحة جغبوب وصلت لبئر مياه عذبة اسمها بئر (عزيلة) وبعد يومين بلغت مشارف واحة جالو، وبدأ سكان الواحة في الاستعداد لاستقبالهم بالحفاوة والكرم اللائقين، فأمر حسنين باشا رجال القافلة بارتداء أجمل الملابس استعداداً لاستقبال كبار رجال واحة جالو لهم، والجدير بالذكر أن قافلة حسنين باشا كانت تتكون من 15 رجلاً و37 جملاً، وقد تسلحت القافلة بتسع بنادق ثلاث منها من الجيش المصري وست متنوعة من روسيا وإيطاليا وألمانيا، بالإضافة إلى عدد أربعة مسدسات وثلاثة آلاف طلقة رصاص، وقد قام بتسليم قطعة لكل رجل وقيد إطلاق الرصاص أو استخدام السلاح بموافقته وبأوامره، وقد استخدمت هذه الأسلحة كلما اقتربت القافلة من واحة أو من مخيم بدوي كنوع من التحية المتبعة في هذه الصحاري فيطلب من جميع رجاله إطلاق ثلاث دفعات من الرصاص في الهواء وأيضاً بهدف إظهار قوه قافلته وإمكاناتها لإحباط أي تفكير في تحرك عدائي ضدها، كما استخدمت هذه الأسلحة في صيد الغزلان، بعد ذلك توقفت القافلة على مشارف واحة جالو بناء على طلب كبير الواحة، حتى يستعد أهل الواحة لاستقبالها الاستقبال اللائق، وقد خرج أكثر من عشرين بدوياً بملابسهم المميزة، وعلى رأسهم حاكم المنطقة حيث أقيمت مراسم الترحيب والمصافحة، وتبادل الطرفان الخطب، ثم أمر حسنين باشا رجال القافلة جميعا ًبرفع بنادقهم لأعلى وإطلاق ثلاث دفعات من الرصاص في الهواء تحية لأهل الواحة جميعاً، ثم تحرك الجميع إلى داخل الواحة وخصصت دار بالواحة مضيفة لحسنين باشا، وأقيم حفل عشاء بهذه المناسبة، بعدها بدأ حسنين باشا في مناقشة خطط الوثبة الرابعة من رحلته من واحة جالو إلى واحة الكفرة جنوباً على بعد 600 كيلومتر.
محمود عبدالمنعم القيسوني
خبير دولي - السياحة البيئية
التعليقات