الإعلام الأن يمثل القوة الناعمة لأي دولة، وتختلف تلك القوة من دولة لأخرى، فقد تتمثل في وسائل ترويجية مختلفة، ولو تحدثنا عن مصر بصورة محددة سنجدها تمتلك أكثر من قوة ناعمة، فأنا أعتبر على سبيل المثال لا الحصر كل شخصية مصرية ناجحة هي وسيلة ترويجية مستقلة بذاتها، فلا نستطيع أن نغفل دور تلك الشخصيات في الترويج لمصر عبر نجاحاتهم وإنجازاتهم كلاً في مجاله بداية من العالم المصري الراحل أحمد زويل والحاصل على جائزة نوبل عام 1999 لأبحاثه في مجال كيمياء الفيمتو ثانية، وتم تكريمة من كل دول العالم، والدكتور مجدي يعقوب أشهر جراحي القلب في العالم، والدكتور فاروق الباز، والدكتور مصطفى السيد، وفي مجالات أخرى مثل الأدب لدينا نجيب محفوظ وطه حسين، وتوفيق الحكيم، وفي مجال الفن عمر الشريف ويوسف شاهين، ورمزي يسى، وعمر خيرت، وذلك على سبيل المثال لا الحصر لأننا لدينا مئات الشخصيات المصرية الناجحة في كافة المجالات، والذين يمثلون جزء من قوة مصر الناعمة.
فخلال زياراتي لدول عربية مختلفة أجدهم يتحدثون معي باللهجة المصرية، ويقولون لي إننا نشأنا وتربينا على المسلسلات والأفلام المصرية، في الوقت الذي لم يكن هناك أي صناعة سينما أو تليفزيون غير في مصر، وكانت تُبث وتُنقل لكل الدول العربية بدون استثناء.
ولو انتقلنا لمجالات أخرى سنجد المُعلم والمهندس والطبيب والمحامي والمثقف المصريين لهم أثرهم في كل المنطقة العربية منذ عشرات السنوات، فكل هؤلاء يمثلون قوة مصر الناعمة، وأفضل وسيلة ترويجية مُشرفه لمصر.
وأذكر أيضاً في بعض المؤتمرات العلمية التي شاركت فيها خارج مصر، كنت ألتقي أحياناً ببعض الشخصيات العلمية الهامة، وخلال حديث جانبي عندما أذكر أنني مصرية، كانوا يقولون لي بسعادة وفخر"أحمد زويل" أو "فاروق الباز" أو "مجدي يعقوب" أو "عمر الشريف" وكأن هذه الشخصيات التي نتشرف بمصريتهم أصبحوا مرادفاً لكلمة لمصر، وفي تلك اللحظة أشعر بفخر كبير، وشعور بالسعادة لا يُوصف.
ولو تحدثنا عن دور الإعلام والعلاقات العامة بشكل أكثر تخصصاً من خلال تجربتي العملية مع حملة فيروس سي في مصر، أستطيع أن أقول إن الإعلام كان له تأثيره الواضح في التوعية بالمرض، وأكبر دليل على ذلك إن فيروس سي موجود ومنتشر في مصر منذ أكثر من 30 سنة، ورغم ذلك لم تنتبه الجهات المعنية بمدى خطورتة إلا عندما بدأت شركات الأدوية في عمل حملات توعية بخطورة المرض عبر الوسائل الإعلامية المختلفة، ولم نكتف فقط بتوعية الناس، بل كنا أيضاً نستخدم وسائل التوعية المباشرة للأطباء أنفسهم، وكذلك التوعية للصحفيين والإعلاميين المتخصصين في مجال الصحة حتى يكون لديهم المعرفة الكاملة لأي خبر يقومون بنشره حول فيروس سي، والأن أصبح لا يوجد شخص في مصر لا يعرف ما هو فيروس سي، وأصبح المريض نفسه هو من يبحث عن العلاج في كل مكان لأنه أدرك خطورة المرض ليس عليه فقط، ولكن خطورته على أسرته أيضاً.
وهناك تجربة أخرى وهي مستشفى سرطان الأطفال أو مستشفى 57357 التي تعتبر الأن أحد أكبر مستشفيات الأطفال في العالم، والتي بدأت فكرتها عام 1999، والتي أشرف بأنني أحد مؤسسيها، وأذكر أننا بدأنا من خلال شقة صغيرة، ولم يكن يعرف أحد عنا أي شئ، ومن خلال الإعلام والدعاية تم بناء المستشفى كاملة عن طريق التبرعات لتصبح الأن صرحاً كبيراً، ومن خلالها تم علاج ألاف الأطفال، ولم يكن يقتصر دور الدعاية فقط على جمع التبرعات وبناء المستشفى بل كان التركيز الأكبر على التوعية بخطورة مرض سرطان الأطفال، وحجم معاناة الطفل المريض، في حين لم تكن الأم أو أسرته يعرفون ماذا يعني سرطان الأطفال، والأن الجميع يتسابق للتبرع لعلاج الأطفال المرضى، وللمساهمة في توسعات المستشفى لتستقبل عدد أكبر من الحالات.
فكل هذة تجارب غاية في الأهمية لدور الأعلام في المجتمع، وكيف يكون وسيلة إيجابية، لدعم قضايا مجتمعية، لا تستطيع الدولة وحدها تحملها، وتحتاج نوع من التكاتف والمشاركة.
وتحضرني قصة هامة جداً تعكس أهمية الإعلام والعلاقات العامة، وهي قصة ستيف جوبز مؤسس شركة أبل، وقد ذكر هذة القصة في سيرتة الذاتية التي كتبها والتر إيزاكسون مدير تحرير مجلة تايم الأمريكية، ويذكر ستيف أنه في بداية إنشاء شركة أبل بداية السبعينيات، لم يكن لديه مقر غير جراج البيت الذي يسكنه، وقرر أن الخطوة الأولى لإنطلاق الشركة لابد أن تكون من خلال الدعاية والعلاقات العامة، واختار في ذلك الوقت "ريجز ماكينا" أشهر رجل دعاية في أمريكا في ذلك الوقت وتحديداً في مجال التكنولوجي، والذي رفض في البداية على اعتبار إنها شركة صغيرة والعمل معها سيكون مضيعة للوقت، لكن مع إصرار ستيف جوبز اقتنع ماكينا وبالفعل وافق أن تكون شركتة هي المسؤولة عن الدعاية والإعلان والعلاقات العامة لشركة أبل، وهذة القصة التي مر عليها ما يقرب من نصف قرن، تؤكد مدى أهمية الدعاية والعلاقات العامة بالنسبة لرجل مثل ستيف جوبز مؤسس واحدة من أهم شركات التكنولوجيا في القرن العشرين، وواحدة من الشركات التي أحدثت نقلة حقيقية في مجال التكنولوجيا الذكية، وهو صاحب واحد من أشهر الإعلانات في العالم "فكر بإختلاف" لشركة أبل عام 1997.
فالإعلام جعل العالم يتحول إلى قرية صغيرة، من يعيش في مصر يعرف بالمجاعة والمعاناة التي يعيشها البشر في بعض الدول الإفريقية، ويدعمهم قدر استطاعته، ومن يعيش في ألمانيا يعرف ما يتعرض له أهلنا في سوريا ويدعمهم، ومن يعيش في كندا يعرف ما يحدث لأهلنا في اليمن ويدعمهم، وهكذا، فهذا دور وأهمية الإعلام والعلاقات، نشر التوعية بما يحدث على كل بقعة على وجه الأرض، بصفة خاصة بعد انتشار وسائل جديدة منها صفحات التواصل الاجتماعي.
وطبقاً لآخر دراسات، فإن حجم صناعة العلاقات العامة عالمياً خلال العام الماضي وصل إلى ما يقرب من 15 مليار دولار، في حين استحوذت أكبر 10 شركات علاقات عامة على مستوى العالم على 6.8 مليار دولار مما يؤكد حجم وأهمية هذة الصناعة على مستوى العالم، وهذا الإحصاء يرتكز فقط على الشركات الكبرى، في حين أن هناك ألاف الشركات المتخصصة في نفس القطاع ربما لم تتضمنها الدراسة تستحوذ على قيمة مماثلة وربما قيمة أكبر، مما يعني أننا نتحدث عن ما يقرب من 30 مليار دولار حجم صناعة العلاقات العامة في العالم، ويحقق حجم نمو سنوي متوقع 15%، أي أننا أمام صناعة ضخمة لها تأثيرها في اقتصاد العالم.
ومن بين الجامعات التي أنشأت تخصصات للعلاقات العامة خلال الفترة من عام 1900 حتى عام 1914 جامعة بوسطن، وجامعة سيراكيوز، بالإضافة إلى بعض الجمعيات الخاصة التي كانت تُدرس العلاقات العامة مثل الجمعية الأمريكية للعلاقات العامة، والجمعية البريطانية للعلاقات العامة، والجمعية الكندية للعلاقات العامة.
ومن الوقائع الشهيرة والقديمة أيضاً، التي تدل على اكتشاف أهمية ودور العلاقات العامة، ليس بحديث، عندما قرر الرئيس الأمريكي روزفلت التوسع في برامج الخدمة الاجتماعية وإيجاد فرص عمل للعاطلين خلال الفترة من عام 1930 حتى عام 1939، تطلب الأمر إعداد برامج علاقات عامة فعالة لتوعية الشعب وإفساح السبيل للإصلاحات المطلوبة.
د. نيبال دهبة
المدير الإقليمي للعلاقات الخارجية لمنطقة الشرق الأوسط بـ"أبفي"
التعليقات