بداية لم الكتابة عن هذا الموضوع في أيامنا هذه.؟!، ولم اختزل الكاتب عملية احترام عقل الإنسان فى الكتابة فقط.؟!، على الرغم أن ثمة مجالات كثيرة ينبغي فيها احترام ذات الإنسان وهويته وقيمه ومبادئه ، كالفن مثلا في جميع فروعه ، سواء كان فنا تشكيلا أو فنا تجريديا ، أو فنا موسيقيا ، أو فن المسرح ، أو السينما أو الدراما التلفزيونية ، كل هذه الأشياء عليها معول رئيس في تشكيل الذوق العام للفرد ولعقله الفردي والذين بدوره يشكل الوعي الجمعي .
ومن ثم ضرورة ملحة أن يلعب الفن بكآفة ألوانه وأشكاله وصنوفه دورا لا أقول دورا ثانويا وإنما دورا أساسيا في النهوض بالمجتمعات من خلالها معالجة مشكلاتها التي يفرزها واقعها الذي تحياه بعيدا عن التكلف والمغالاة وإخراج المضامين عن سياقاتها التي حددت لها بعيدا عن الإسفاف والابتذال والأعمال الهابطة التي يظن أهلها ظن السوء أنهم يقدمون أعمالا مفيدة لواقعهم .
لكن هى في حقيقة أمرها أعمال تشرعن إلى الرذيلة ، فكيف يمكن لنا أو بمعنى أدق ، كيف تسمح الرقابة على المصنفات الفنية بإعطاء الضوء الأخضر لمسلسلات وأفلام يتعاطى فيها المخدرات وتجارتها أو الإيحاءات الجنسية أو الألفاظ الخارجة أو المشاجرات التي تستخدم فيها السنج والأسلحة البيضاء ، ألا يعلم هؤلاء أن هذه المسلسلات وهذه الأفلام تقتحم بيوتنا .
حتى إن أغلقنا أو غلقنا بتشديد الغين أبوابنا فلن تعدم الحيل في الوصول إلى عقول أبنائنا خصوصاً من هم في سن المراهقة أو ما دونها ، فيشرعون في تطبيق ما يشاهدونه فيحدث ما لا يحمد عقباه ، وما نعانيه الآن في مجتمعنا المصري ، من تعاطي مخدرات ، وبلطجة وألفاظ خارجة تخدش الحياء.
وتودي بحياة الشباب إما موتا بضربة سنجة أو حقنة مخدر أو يودعوا غياهب السجون ، وتكون القوى الناعمة في جانبها السلبي سببا رئيسا في تدمير الوعي ، فبدلا من تهذيب الحدث والصبيان وتربيتهم قيميا ، تقوم بتدميرهم وتدمير ثروة قومية ما أحوجنا إليها الآن ونحن على أعتاب جمهورية جديدة نسعى فيها إلى تحقيق حلم التنمية المستدامة المرجوة.
تعالوا معي نتفق على أمر مهم ألا وهو ، أن الكتابة موهبة ، وفن من الفنون التى ترتقي بالإنسان ، هذه واحدة ، أما الثانية ، الكتابة تختلف عن الوراقة ، فالكتابة إبداع ، أما الوراقة فعمل من لا عمل له ، كمهنة (العرضحالجي)، الذي يضع طاولة أمام المحاكم ويكتب طلبات أو مذكرات ليقتات ، أو ككاتب النيابة الذي يجلس بجوار وكيل النائب العام ، يكتب ما يملى عليه ، ليس ثمة موهبة ، ليس ثمة إبداع وإنما هو بمثابة ناقل مؤتمن على ما ينقله ، وهذا ما أودي بأبي حيان التوحيدي إلى حالة اليأس التي وصل إليها في أخريات حياته ووصل به الأمر إلى إحراق جل كتبه ومؤلفاته العملاقة.
إننا نعاني في مصرنا الحبيبة الآن من زخم ، لا أقول زخم كتابي أو زخم ثقافي أو زخم علمي ، وإنما وبكل أسف نعاني من زخم فوضى الألقاب ، فهذا كاتب صحفي ، وهذا أديب ، وهذا شاعر ، وهذا إعلامي ، وهذا مفكر، وهذا داعية أو هذه داعية.
مما أصاب المتلقي المصري بحالة من اللاوعي ، فبات مشتتا فكريا ، قلقا وجوديا ، في حيرة من أمره ، إلى أي فكر يميل ، إلى أن اتجاه يسير ، لا يستطيع وسط كل هذا الزخم أن يشكل رؤية واضحة ولا يستطيع أن يكون رأيا عن قضايا مجتمعه التي يعيشها ويعايشها ، والنتيجة الحتمية إما أن يصاب بالاحباط واليأس الذي قد يؤدي به إلى اللامبالاة.
أو يخوض مع الخائضين مطبقا مقولة (سمك ، لبن ، تمر هندي)، (كله عند العرب صابون).
لكن الرأي عندي إذا أردنا حقا الارتقاء بفكر القارئ ، فلا يمكن أن يتحقق إلا بالآتي.
أولا: احترام عقله ، كيف؟! عن طريق تقديم فكر منضبط ، يعالج مشكلات واقعنا المعاصر الذي يعج بالعديد والعديد من القضايا التي تحتاج إلى أقلام حرة مستنيرة موهوبة تستطيع ، تشخيص الداء دون مجاملة لأحد أيا كان موقعه ومركزه ، من أجل وضع روشتة علاج ناجعة.
فلدينا مشكلات فى الثقافة ، فى التعليم ، فى الاقتصاد ، في المجتمع ، أزمة قيم وأخلاق ، أزمة وعي وتوعية ، أزمة دعاة ، نريد أن نعالج كيفية الارتقاء بالدين ونتحول برجال الدين ونخرجهم من دائرة السبوبة والاتجار بالدين إلى علماء دين فبون شاسع بين المصطلحين.
ثانيا: آليات الحكم الموضوعي على الكاتب ، فمتى نصفه بالكاتب الموهوب المخضرم ومتى نصنفه بالكاتب الوراقي الموظف الذي يمتهن الكتابة كحرفة ليقتات منها.
الآلية الأولى ، كيفية اختياره للموضوعات التي يكتب عنها ، هل هذه الموضوعات ذات هدف من وراء كتابتها ، ما المغزي من الكتابة عنها ، هل ستناقش قضايا المتلقي ، هل سترتقي بعقله ، هل ستنير له الطريق وتفتح له أبوابا من الأمل في غد أفضل.
الآلية الثانية ، وفيها نفرق بين نوعين من الأقلام ، قلم حر جرئ لا يخشى شئ ، يكتب ما يمليه عليه ضميره وحسه وموهبته ، وقد يقوده ذلك إلى التهلكة ، لكنه يظل ثابتا على موقفه مهما حدث ، فقد يهمش ويهمل ، قد تمنع مقالاته من النشر ، قد يمنع عنه راتبه ، لكنه يعلم ذلك جيدا ، لكنه يظل هو هو كما هو لا يحيد ولا يميد ولا يخون القسم ولا العهد الذي قطعه على نفسه.
وقلم مأجور يعلم جيدا أن ما يكتبه باطل ولا يمت للواقع بصلة ، فيكتب ما يملى عليه حرفيا دون نقاش أو دون أدنى معارضة ، فالذي مرد على ذلك لا يمكن أن يرجع عنه ، لأنه رضى بالمذلة والمهانة وهو يعلم تمام العلم أن قلمه هذا له مهمة سيؤديها ، مجرد أن تنتهي سيقصف قلمه أو في أضعف الأيمان سيركن في مقلمته.
أما الآلية الثالثة للرقي بعقل المتلقي فتتمثل في مهارة الكاتب التي تتمثل في موسوعية ثقافته ، وبراعة إطلاعه واحاطته بالموضوع الذي يكتب عنه من كل جوانبه ، فضلا عن تمكنه من مفردات اللغة ، بعيدا عن الألفاظ مستغلقة الفهم التي يشعر معها المتلقي بتعالي الكاتب عليه ، والنتيجة ، يترك المقال وينصرف عنه دون قراءته.
كذلك ضرورة ملحة أن تتوافر فى الكاتب الموهوب سلامة اللغة العربية فلا ينصب الفاعل ولا يضم المفعول ، فاللغة السليمة طريق لتشويق القارئ لإتمام قراءة المقال.
نأتي إلى الآلية الرابعة ، ألا وهي ضياغة المقالة في صورة إشكالية يسعى بعد ذلك من خلال متن المقال لطرحها ووضع الفرضيات لها من أجل إيجاد حلول ناجعة ، ثم يختتم مقالته ، لا أقول ختاما تقليدا وإنما يبدأه بتسائل ، ويختتمه بسؤال يكون بمثابة أطروحة لمقال جديد ، مما يجعل القارئ في حالة من الشغف والشوق إلى ما سيقدمه هذا الكاتب أو ذاك في مقالته الجديدة.
إلا أن ثمة آلية مهمة ترتقي بعقل المتلقي وتحترمه ، طريقة نشر المقال وإخراجه من حيز الوجود بالقوة إلى حيز الوجود بالفعل ، هذه الآلية تتمثل في طريقة نشر المقال واختيار أماكن نشره ، فلا ينبغي بحال من الأحوال النشر في أماكن مجهولة النسب (تحت السلم) ، أو النشر فيما يطلق عليه الصحافة الصفراء ، فذلك ليس فيه لا احترام للقارئ ولا للكتاب نفسه ، وإذا لم تتوفر له منصة محترمة فأكرم له أن ينشر مقالاته على صفحته على فيسبوك (منبر من لا منبر له).
إذا أردنا احترام عقل قراءنا فعلينا أن نحترم فكرنا أولا ونحترم كل كلمة نقولها ، فالكلمة مسؤولية والكلمة أمانة ولا يزال الرجل يتفوه بالكلمة من سخط الله فتهوي به فى النار سبعين خريف.
ولا يزال يتحدث بالكلمة في رضوان الله ترفعه مكانا عليا.
نعم احترام عقل القارئ يرتقي بالكتابة فيضع الكاتب أمام مسؤولياته فيجتهد قدر طاقته أن يقدم منتوج معتبر وهذا في حد ذاته ارتقاء بالكاتب أمام ذاته وأمام هذا العقل المتلقي.
أستاذ الفلسفة بآداب حلوان.
التعليقات