في زمنٍ باتت فيه التقنية تملك مفاتيح الزمن البصري، نستطيع اليوم، بلمسةٍ على شاشة، أن نُعيد لصورة قديمة ألوانها، وأن نمحو عنها التجاعيد التي حفرها الزمن في ورقها، نُجمّل الذكرى، وننفخ فيها من فتنة الحداثة ما يوهمنا أنها لم تبهت يوماً. نعم، يمكننا أن نحسّن جودة الصورة، أن نعيد للحظة بصريةٍ بهاءها… ولكن، هل نملك ذات القدرة على ترميم ما تقادم فينا؟
هل نقدر على صقل نفوسنا التي أكلها التعب؟ هل بإمكاننا إعادة تشكيل طفولتنا، كما نعيد تشكيل وجهٍ في صورةٍ باهتة؟
أيمكن لتقنية أن تنفخ في قلبٍ قديم براءةً كان يحملها، ثم ضاعت بين خيبات التجارب؟
أيمكننا أن نبعث جَدًّا رحل او أبا غادرنا، لا في الجسد، بل في حضورهم الذي كان يملأ البيت دفئاً وهيبة؟
هل نستطيع إعادة طفولتنا، لا في صورها، بل في طُهرها، في دهشتها، في ضحكتها التي لم تلوثها الأيام بعد؟
الذاكرة الإنسانية ليست شريطًا بصريًّا فحسب، بل نسيجٌ من شعور، وحكايا، ونبضٍ دفين. ما تقادم فيها لا يُعاد عبر أدواتٍ رقمية، بل إن مسّه يُخِلّ بتوازنه؛ لأنه قائم على عفويته، على كونه قد مضى… وكل ما مضى، له قدسيته التي لا تُمس.
فيا من تأملون أن تعيدوا من الماضي ما تكسّر… تمهّلوا. الصور تُرمَّم، أما النفوس، فإن ترميمها لا يكون إلا بصدقٍ موجع، وتطهيرٍ داخلي، وبصلاةٍ تُقال في خفاء الليل. لا تُعيدوا القديم لتُعذبوا أرواحكم بما لن يعود، بل احفظوه كما هو، بعثراته، بجماله، ببساطته. فبعض القِدم، لو لُمِع، فقدَ قيمته، وبعض الذكريات، إن أُعيد تشكيلها، تهشّمت كزجاجٍ لم يُصنع لمرّة ثانية.
فلنُحب صورنا القديمة، لكن دون أن نغشَّ قلوبنا.
ولنشتق لجَدّاتنا وأصوات آبائنا، دون أن نُقحم الحنين في زيف الاستعادة.
ولنحتضن طفولتنا، لا لنُعيدها، بل لنتعلم منها… علّنا نصبح أكثر صدقًا مع حاضرنا، لا أسرى لصورة قديمة على شاشة.
فليس كل ما بَلي يُصلَح، وليس كل ما مضى يُستَعاد… وبعضُ الذكريات، كالعطر في الثوب، تفوح إذا ما احتضنته، لكنها تختفي إن حاولت احتواءها في زجاجة.
التعليقات