البسترة هي عملية يتعرض فيها الحليب والسوائل عموما لدرجة حرارة عالية يتبعها تبريد مباشر. الهدف من العملية هو الحفاظ على الطعام وحمايته من البكتيريا والجراثيم ليتم الاحتفاظ به لأطول فترة ممكنة ولا تؤثر هذه المعالجة على الفائدة الغذائية والطعم. ليس الأمر بغريب ولا جديد. لكنني وأنا اتأمل السنوات القليلة الماضية من حياتي وحياة من حولي وجدت أن هذه العملية الدقيقية من التعرض للنقيضين لا تقتصر على الحليب وحده بل يمكن أن يتعرض لها البشر أيضا. كم تمتليء أحداثنا بمواقف ومصاعب استدعت الشعور بقمة الضيق والحزن ثم تحولت لفرج وراحة.
من منا لم يختبر التناقضات في حياته؟! ومن منا لم يحمل وجهه علامات غضب وحسرة ثم انفرجت أساريره مع زوال أسباب الغمة! نتصبر دوما بذكر أن هناك حكمة من الألم وأن أي ابتلاء يحمل رسالة في طياته لكننا لم نفكر في الأمر جدية. حقا هذه عملية خطيرة تتعرض لها النفس البشرية لسبب وغاية هامة لكن هل تفيد أم لا؟!
لو ظل الحليب في الإناء دون التعرض لهذه العملية المحسوبة لفسد وتكاثرت داخله الجراثيم وأصبح غير صالح للاستخدام الآدمي. شدة الحرارة وقسوتها ثم انخفاضها المفاجيء يمنحه القوة والصلابة والمناعة اللازمة ضد الفساد والضعف. هكذا هو حال النفس البشرية التي تمنحها الصعاب صلابة وقسوة لكنها في بعض الأحيان تتحول مشاعرها المبسترة إلى لا مبالاة أو لنقل تبلد وتحكم نادر في الانفعالات فلا تهتز فرحا لأي شيء عابر ولا تتأثر بدموع غيرها فقد مر عليها الكثير.
قابلت مؤخرا صديقة عزيزة دقت على رأسها طبول كثيرة من مصاعب الفقد والمحن والخذلان والقهر. تلاعبت بها أمواج الحياة فظنت أنها غارقة لا محالة ثم فجأة هدأ تلاطم أمواجها وتبدلت غيوم سمائها إلى الصفاء. حدث لمشاعرها عملية بسترة منحتها مناعة قوية ضد المصاعب كما حولتها إلى منتج جديد ضد جراثيم الخذلان والهوان والأذى. رأيت صديقتي وقد تحولت إلى هيكل مصمت تمر المشاعر عليه مرور الكرام سطحية لا تخدش وحولتها إلى كيان غير قابل للكسر. هذه الصلابة لها وجهان فهي محمودة عند البعض وغير ذلك عند آخرين لكنها تبقى تجربة ذاتية خاصة بكل شخص على حدا وفق ما تعرض له في حياته من أحداث إيجابية أو سلبية.
لا تختلف المشاعر الإنسانية عن الظواهر الطبيعية فكما أن هناك ليل ونهار، دموع حزن تتبعها دموع فرح وضيق ثم انفراج تماما كالحرارة العالية التي تتبعها حرارة منخفضة. الناتج في صالح من تعرض للأحوال المتناقضة أليس بضدها تتميز الأشياء؟
التعليقات