الأدب النبيل هو الذي يعبر بصدق عن الإنسان (ذكراً كان أو أنثى)، وعن آلامه وآماله، وعن أفراحه وأحزانه، وعن دموعه وابتساماته، وعن هواجسه وما يقلقه، وعن طموحاته وما يبهجه، وعن صراعة مع الحياة والطبيعة، وتفاعله مع من حوله من البشر والأشياء.
ويكاد يكون التعبير عن ألم الإنسان ومعاناته أكثر صدقاً، وأقصر وأسرع وصولاً إلى قلب القارئ قبل عقله، وأكثر تأثيراً فيه، ما كان تعبيراً صادقاً، وواعيًا وعميقاً، وبأسلوب فني جاذب بعيداً عن التسطيح والتقليد، وخالياً من الغموض والإغراق في التعقيد. والحياة كما يقول «جون كيتس» الشاعر الانجليزي، هي «الوادي الذي تنضج فيه الأرواح» ولا تنضج الأرواح إلا على نار الألم ولهيب الدموع. وكذلك لا ينضج العمل الأدبي إلا على نار الصدق، والعمق، وبراعة الصياغة.
قد يحمل عنوان العمل الأدبي طاقة ايحائية ودلالية، أو طاقة رمزية، أو جمالية، وإن كان يمثل في الوقت نفسه تعرية للعمل الأدبي وكشفاً لأسراره وإغراءً بمكنوناته. وقد من الوضوح ما لا ينال من تميزه، ومن المجاز ما يصبغه بصبغة جمالية، فلا هو بالغامض، ولا هو بالمباشر، فيكون بذلك جسراً للتواصل والتفاعل بين المتلقي القارئ وبين العمل، ويساعده على فك طلاسمه وسبر أغواره. والمجموعة القصصية للقاصة والأديبة "عزة أبو العز، التي تحمل عنوان "نزف الوردة" يمكن أن ينطبق عليها ما سبق جميعه، وإن أوحى العنوان للبعض أن يراها نزفاً ذاتياً للكاتبة، مستدلاً على ذلك بالإهداء الذي يحمل هذه الدلالة، ويسوق هذا التخيل، غير أن المبحر في نصوص المجموعة والمتعمق فيها سيجد أن التجربة ليست ذاتية، وقد تكون انعكاسًا غير منسوخ من التجربة الذاتية، ألبسته الكاتبة ثياب تجارب انسانية عامة عظيمة الفائدة، واسعة التأثير، استطاعت الكاتبة ببراعة أن تنوعها، وتتعمق فيها، جغرافياً، أو مجتمعياً، (ما بين مجتمع الريف ومجتمع المدينة)، وتاريخياً (ما بين القديم نسبياً والحديث، والمعاصر أو في نهاية القرن العشرية وبداية القرن الواحد والعشرين). قام خلالها قلمها مقام مبضع الجراح الذي يقوم بتشريحها، والكشف عن مكنوناتها ودواخلها، ووضع يده على بواطن الألم ومواطن النزف العضوي، أو كطبيب نفسي، يتابع حالاته المستلقية على سرير الاعتراف أو الفحص، فيحدد مواطن النزف النفسي ومسببات الآلام، كل هذا في أسلوب سلس بعيد عن التعقيد، وبلغة أدبية رفيعة، وبتصوير فني يلوح بين الحين والحين، وحوار يكتسي المنطقية والتعقل.
والنزف ألمٌ لا يتوقف، ومعاناةٌ لا تنقطع، هو مشيٌ على الأشواك، وجروح لا تكف عن الوجع، هو بالأحرى موت بطيء لو استسلم الانسان له. وهذا النزف ليس بالضرورة أن يكون جسدياً عضوياً، فقد يكون روحياً ونفسياً، والوردة كائن لطيف ناعم، معطاء، تمنح عطراً، وتبعث سروراً بالنظر إليها، أودعها الله الجمال والرقة، وهما من مكامن ضعفها، ومواطن جاذبيتها، وهي من الضعف لدرجة أنها لا تستطيع أن تواجه تقلبات الطبيعة وتعديات البشر، وأن تمنع عنها ما يجرحها، ومن يجرحها أو ينال منها، فتكون عرضة للنزف. والوردة هنا رمز للأنثى، الأنثى الأم، والأبنة، والزوجة، والشابة، والطفلة، والصديقة أو الرفيقة أيضاً، الأنثى المغلوب على أمرها، الضعيفة، مكسورة الجناح، الضحية، ضحية الرجل، الرجل الزوج، أو الأخ، أو الأب، أو زوج الأم، الرجل القريب أو الرجل الغريب، كما أنها كانت ضحية لنفسها، فكان النزف بيدها أو بيد أنثى من بني جلدتها لا بيد غيرها (كما في قصة "شبكة وصنارة" وقصة "الليلة الموعودة").
لم تغب هذه النظرة للرجل، الجاني، والجارح، إلا في قصة "حب البنات" فهو أخ البنات الذي كان موت أخته الصغيرة موت من جديد لأمه واخواته، ولعل في القصة الأخيرة "الاختيار" محاولة لمواجهة الوردة يد من يريد جرحها، أو قطفها، أو النيل منها، محاولة تحاول بها الكاتبة، أو تقول لنا فيها، إن مواجهة التعدي هي الاختيار الذي يجب أن تختاره الأنثى التي تتعرض للتعدي، والظلم، والاضطهاد، ولعل في اختيارها لهذه القصة لتكون الأخيرة في المجموعة مدلول يضاف إلى مدلولات عنوان المجموعة، وعناوين القصص، وأسماء شخصياتها وكذلك الحال في اختيارها أن تكون قصة "معركة جهاد" بداية هذه المجموعة.
هذا العمل، إضافة إلى كونه، عمل أدبي قصصي ذو قامة مستقيمة ورأس مرفوعة، هو عمل توثيقي أو تسجيلي فني وتحليلي بحثي، رصدت الكاتبة فيه جملة معاناة الأنثى الاجتماعية وآلامها النفسية والجسدية التي عبرت عنها الكاتبة في عنوانها بالنزف، فمن خلال ستة وعشرين نصاً، وثَّقت الكاتبة ألواناً وأشكالاً من النزف، متنوعاً ومختلفاً، وغير مكرر أو منسوخ، تم تناولها تناولاً أدبياً، فنياً، وتناولاً تحليلياً تشريحياً، واستطاعت الغوص فيها والتعبير عن أحاسيسها ومشاعرها، بمنطقية وحيادية، حالت دون أن نجد ميل الكاتبة الوجداني والشعوري لبني جلدتها، كما استطاعت ببراعة أن تصوغ شخصياتها صياغة دقيقة، وبرعت في تصويرها وتوصيفها كيميائياً أو نفسياً، وفيزيائياً أو جسدياً.
وبعيداً عن كون المجموعة تصوّر الرجل في صورة الجاني، الجارح، والمتسبب دائماً في النزف الانثوي البدني والنفسي، وهي صورة لا شك غير حقيقية، على طول الحياة وعرض الواقع، إلا أن المجموعة استطاعت أن تلفت نظرنا إلى معاناة الأنثى، ومشكلاتها، واحتياجاتها، ودواخلها، ووجوب الاستماع لها، والإصغاء إلى تأوهاتها، والاحساس بآلامها.
وكما كان لعنوان المجموعة دلالاته وايحاءاته، كذلك كان لعناوين القصص ايحاءاتها وطاقاتها التعبيرية أيضاً، فكانت العناية في اختيارها، فجاءت قصيرة مكثفة محملة بالطاقة التعبيرية والاشعاع الدلالي، من ذلك "معركة جهاد، الصفقة، الطرف الأقوى، نقطة خلاف، يد، الحلم، الليلة الموعودة، ظلال باهتة، وداد، فريدة، غربة، قوامة"، وإن كنت أرى في عنوان "الشبكة والصنارة، أن يكتفى بالصنارة فقط أو الشبكة فكلاهما يعمل عمل الآخر في الاصطياد، وأن كنت أميل إلى الصنارة كون عملها يكون مصحوباً بالألم والنزف. وكذلك عنوان "زوجك هاشم" بدا لي مختلفاً عن سياق القصة، أو ربما يكون له مدلول لم أستبنه.
وكذلك الحال في اسماء الشخصيات، كان لها دلالات وايحاءات مثل" جهاد في قصة "معركة جهاد"، ورجاء في قصة "أمل ورجاء" مريم وآلام المخاض في قصة "ابن مريم"، و"الشيخ السادات"، الذي ربما يحمل دلالة رمزية او اسقاط ما في قصة "بنت عزيزة"، وحنان وهيام في "شبكة وصنارة"، وفريدة في قصة "فريدة"، ونوال ووداد في قصة "وداد"، وسلوى في "الاختيار"، وإن كنت أرى ان استخدام اسم رحيمة في قصة "بنت رحيمة" قد حاد عن هذا النهج.
واللغة هي وعاء الفكر، ووسيلة التعبير، وجسر التواصل بين الكاتب والمتلقي القارئ للعمل، واستطاعت الكاتبة في هذه المجموعة القصصية أن تخلق لغة قصصية تختلف عن اللغة المعجمية الجافة الجامدة، وتنأى عن لغة الحياة اليومية التقليدية الدارجة، فنحن أمام كاتبة تملك ناصية لغتها، وتوظفها توظيفاً أدبياً يخدم أفكارها وما تود التعبير عنه، وذلك بسلاسة ويسر ورقي حال دون أن يُشعر القارئ بما يمكن أن يعترض طريقه من عثرات، أو عوائق، أو جنادل، أو فخاخ.
وهناك ملمح مميز آخر في هذه المجموعة، أراه من وجهة نظري أميز ما في هذ المجموعة ، إضافة إلى تفردها في رصد وحصر ألوان النزف الأنثوي، وأعني بهذا الملمح اعمال العقل، والفكر، فأنت لا تكاد ترى العقل، والفكر يغيبان عنك طوال قراءتك للمجموعة، بداية من اختيار عنوان المجموعة، ودلالاته، بل وعناوين القصص ذاتها، وأسماء شخصياتها، مروراً بانتقاء موضوعات القصص، وطريقة تناولها أو بنائها الفني، بل وفي ترتيب قصص المجموعة وجعل قصة "معركة جهاد" بدايتها، وقصة "الاختيار" نهايتها، والقدرة على الصياغة النفسية والفيزيائية للشخصيات، وانتهاءً بنهايات القصص سواء النهاية المتوقعة، أو النهايات المفاجئة، والتي غلبت على مجموعة القصص (كما في قصص: الجسد المرصود، مستحيل، أمل ورجاء، دلع البنات، الصفقة، الليلة الموعودة، بعد التحية والسلام، شبكة وصنارة)، أو النهايات المفتوحة، اللا محددة، المتروكة لخيال القارئ وتوقعاته (كما في قصة "نقطة خلاف" و"غربة"). كما تجلى العقل والمنطق في الحوار، الذي لا تميل به الكاتبة لشخص على حساب الآخر، فكان الحوار حوار عقل لعقل، ومنطق لمنطق آخر، وفكر لفكر مغاير أو مخالف له، كم لم يغب العقل في البناء الفني للقصص، وتنوعه، كأننا أمام عمل مُهندَس بعناية، تم التخطيط له، واختيار لبناته بدقة وتهذيبها التهذيب المطلوب قبل وضعها في أمكانها المناسبة لها.
نحن أمام مجموعة قصصية مميزة ومختلفة، في موضوعاتها، وفي تناولها، بل وفي هندسة بنائها، وهندسة بناء لبناتها أو قصصها، كما انها مجموعة قصصية تلامس الواقع، بل لا نبالغ إن قلنا إنها خرجت من رحم الواقع، ونكاد نعايش قصصها، التي تعدّ صفحات من سجلات الحياة، كل يوم. إنها تجارب انسانية بالغة الحساسية، في قوالب فنية متقنة الصنع والصياغة لكاتبة تمتلك ناصية اللغة وتُحسن توظيف أدواتها الفنية في الكتابة ببراعة وبسهولة في الوقت نفسه.
التعليقات