"لم أعد أستطيع النوم "
تنهدت آيات وهي توجه كلماتها الإفتتاحية لسقف غرفة الكشف متجاهلة المعالج الجالس إلى جوار الكرسي الذي اتكأت عليه، هو ذات المعالج و هي ذات الشكوى لكنها لم تمل أبدا من انتظار رد جديد، رد يحمل اليها الحل لمعضلة لا تريد أن تضمحل مع الزمن، ألا يقولون أن الزمن يعالج الفقد والغضب و الحزن، لم لا يعاونها الزمن أبدا؟ انتظرت كثيرا أن يقل الألم ويخبو مع مرور الأعوام ولكنه بات يتمسك بها كوليد وجد أمه بعد فطام أجبر عليه.
"لا فائدة لازلت أكره الليل وانتظر نوبات القلق وكأننا على ميعاد، أتوق إلى ليل هادئ لم أختبره منذ أعوام"
استرسلت آيات في سردها للسقف الأبيض دون أن تنتظر رد، لا تعلم لم تستمر في زياراتها للمعالج النفسي وهي تعلم أنه سيسأل ذات الأسئلة وستحكي بالرغم من أن الحكي لا يزيدها إلا غرقا في ذكريات تكرهها، لا يزيدها الحديث إلا غربة و تخرج من زيارة العيادة كل مرة منهكة وكأنها تعيش ذلك اليوم من جديد، ذلك اليوم الذي انفجر فيه السلاح بين أصابعها وانتهى المقذوف بين ضلوع أكرم، مرت الثواني بعد ذلك وكأنها دهر، عاشت لحظاتها كعمر كامل تباطأ فيها الزمن قبل أن تجد نفسها حبيسة تلك اللحظات ما تبقى من عمرها.
لم تنس للحظة تلك المشاعر المختلطة التي عاشتها في تلك الدقائق، ما بين إرتياح وفزع وفرحة وندم، اختلطت مشاعرها كفروع أشجار تجاورت حتى بات من الصعب التفرقة بينهم، لم تعد تستطيع تمييز الارتياح بين ضلوعها من الندم والخوف، اليس هذا هو الشعور الذي سعت اليه بعد فزع العيش مع ذلك الوحش الكاسر؟
لم يكن لأكرم اى نصيب من إسمه ولم تر منه يوما أي كرم بل أذاقها جميع روافد القهر في خمس سنوات عاشتهم معه في زيجة لم تكف يوما عن التخطيط للفرار منها. حتى كان ذلك اليوم وهي تقف أمام حائط تلطخ بأنسجته ودمائه ويرن إلى جانب قدمها فارغ لمقذوف اخترق صدره، لم تكن تعلم قبل تلك اللحظة أن بإمكانها التحكم في سلاح ناري ولم تظن يوما أن بإمكانها القتل، كانت كنسمة خريف باردة طوال حياتها لا تلامس أحدا إلا رفقا، ولكن تلك اللحظة جاءت وعبرت بها إلى المجهول.
كم تمنت لو أن يكون ذلك اليوم حلما تفيق منه فتجد أكرم لازال في فراشه، ستحتمل رائحة الغضب والكره والقهر من جديد فهم أهون من صورتها في المرآة التي باتت غريبة عنها، منذ ذلك اليوم وهي تفر من انعكاسها، فقد أصبح مخيفا، عيناها صارتا سوداء دون بياض ترى فيهما حفرة عميقة لا قرار لها، شر لا تريده، تخافه، لكنه قابع خلف عينيها، رأته وكأنها تقابل صديق، قابلته في ذلك اليوم المشؤوم فلم تعد تستطيع ألا تراه، وكيف لا تراه وقد استحوذ عليها كمس سفلي، كيف تنكره وهو الذي أخرجها من براثن الحياة القاحلة التي كادت تفني وجودها، ذلك الشر موجود شاءت أم أبت، لن يزول حتي وان تمكنت أن تتجنب انعكاسه في المرآة.
لكن اليوم غير كل يوم فقد قرأت أخيرا عن فتح باب التسجيل للتطوع في مشروع الشروق الأول، كانت قد قرأت عنه كثيرا باتت تنتظر الإطلاق الرسمي له وكأن المشروع سيجيب عن كل خيباتها في حياتها، قرأت عنه كثيرا وعرفت أنه مشروع سري يعمل عليه البشر منذ ألاف السنين دون جدوى ولا مُخرج واضح، كانت البداية فيما رواه هيرودوت على لسان كهنة أمون حين روى عنهم عبارة خالدة " إن الشمس اشرقت مرتين من من حيث تغرب الأن وغربت مرتين من حيث تشرق الأن" عبارة انطلقت فرق علمية تحاول أن تفسرها منذ العام ٤٤٠ قبل الميلاد، حتى كان العام الماضي والذي خرج فيه البيان الذي قرأته كغيرها في الصحف، والذي يحكي عن كشف علمي تمكن من خلاله علماء الفضاء والفيزياء من استنتاج الموعد الذي تشرق فيه الشمس في فلك مجموعة الحوت النجمية وأنه حين تحدد الميعاد بدقة أصبح من الممكن زيارة تلك الحقبة السابقة.
اثلج صدر آيات أن القائمين علي المشروع طلبوا متطوعين لتلك الزيارة وعقدت العزم أن تكون أولهم
"ما جدوى تلك السفرة؟ " سألها المعالج في حيرة مَن فقد بوصلته
"الا ترى؟ "ردت آيات وقد انفرجت أساريرها "كل شيء متصل فأنا لم أصل إلى تلك اللحظة الفارقة التى أودت بحياتي إلى جحيمها اللا نهائي من فراغ"
قطب المعالج حاجبيه في غير فهم وتفحصها مليا، هي ذات الفتاة التي أتته منذ أعوام تعاني من رهاب هاجمها بعد أن قتلت زوجها دفاعا عن نفسها، نفس الفتاة مدخلة البيانات التي لا تعلم عن العالم إلا أرقام وعداد وقت وجهاز حاسب آلي، لا يعلم من أين أتت بفلسفة كونية غريبة لا يفهمها.
ارتأت أن تنقذه من حيرته
"قرأت كثيرا في فلسفة الكون وأشعر في عظامي إلا شيء يحدث صدفة، فكرت في السفر عبر الزمن لأصلح ما أفسدته فأعيد لقلبي براءته ولكنك تعلم أن ذلك ضد القانون وأن كل محاولات العودة لإصلاح الماضي فشلت من قبل، ربما استطعت أن أقابل روحي التي عاشت في الحضارة السابقة لأفهم من أين جئت بهذا الشر".
"أتعنين أنك ستبحثين عن حياتك السابقة والتي عشتيها قبل الفناء الأول للعالم؟ " سأل المعالج استنكارا
نعم هذا ما أعنيه بالضبط ردت آيات وهي تهم بالوقوف " لكل منا حياة سابقة وأنا أنتوي أن ألتقي خلقي الأول" مدت يدها تسلم عليه سلاما كالوداع فهذه الزيارة الأخيرة فلن يكون هناك غد لتلك الروح التائهة.
"إذا ثبتنا المكان والزمان وتم ضبط الآلة على ذلك فإنه من المتوقع أن تجدي نفسك هناك لتقابلي آيات في حياة سابقة "
وقف الرجل في بالطو معمل أبيض يشير إلى شاشة افتراضية عليها احداثيات لم تعنِ لآيات الكثير، هي تريد أن تصعد إلى تلك الآلة وربما لا تعود، لا يعنيها كثيرا آليات العودة ولا الفهم، الرحلة هي التي ستفهمها. تريد أن ترى عينيها من جديد قبل أن يطغى عليها الجاثوم ويخرج من مقلتيها شذرات القتلة.
فتحت عينيها فرأتها أمامها هي ذاتها تلك الفتاة البريئة التي لازالت على مشارف الحياة، فتاة غرقت في ثوب زفاف أبيض طويل وانسدل عليه شعرها في انسيابية وحرية، لا تشبهها كثيرا بل لا تشبهها البتة ولكن هناك شيء في عينيها لا يمكنك الا أن تراه، شيء مألوف و يأتي مغلفا بألفة غريبة. التقت عيناهما عبر القاعة الكبيرة والتي اكتظت بالمعازيم، تشابكت نظراتهما، تآلفت وانحسرت سويا في رقصة لم يفنى لحنها. قامت العروس من مجلسها لتلقى تلك الغريبة التي ظهرت بحفل عرسها دون دعوة، استقرت في لقاء معها وجها لوجه في ردهة الفندق وخارج القاعة التي اهتزت جدرانها بالموسيقى الصاخبة وفرحة الأهل والأصدقاء. ساد الصمت، صمت غير مفهوم إجلالا لفهمٍ للغة غير منطوقة استشعرنها سويا.
لم تسأل العروس أي من الأسئلة المتوقعة، ربما كان حديث الروح أعمق وأقوى، نظرت آيات حولها لا تعلم كيف تقيم حوارا مع ذاتها التي التقتها، هل هذا هو انجلاء البصيرة؟
لأسابيع ترقبت آيات العروس ورقبتها عن بعد، كانت حياتها هادئة تبدو مطمئنة تذهب كل صباح الي المستشفي التي تعمل بها ممرضة وتعود إلى منزلها قبل العصر لتقوم بمهامها كزوجة بدا أن الحب يخيم على علاقتها يزوجها، تعجبت آيات من حياتها التي بدت مثالية، تمنت لو أنها تنزع عن نفسها ثوب الخطيئة فتعود كتلك العروس في حياتها السابقة، تمنت لو أنها لم تبعث من جديد في جسدها هذا ولم تولد لتعيش حياة آيات المربكة، تلك الحياة التي أخرجت من صدرها جرما لم تكن مستعدة لتحمل عواقبه. أغمضت عينيها على صورة فتات عظام صدر أكرم على أرض غرفة نومها وجسدها ينتفض خوفا وكرها وسط حطام زجاج المرآة التي تهشمت على عظام رأسها، مشهد كريه أدمى حياتها، لا تدري لم رافقها ذلك المشهد في رحلتها الأخيرة، لا تدري إلى أين تهرب وقد هربت منه إلى حياة أخرى! فتحت عينهيها في ألم وهي تشاهد العروس تجوب المستشفى في زيها الرسمي الأبيض، ابتسمت لها في قبول وفهم، عرفت أنها هنا في زيارة ذات غرض ولكنها لم تفهم معنى تلك الزيارة بعد، نظرت العروس إلى آيات و غمزت لها بعين واختفت داخل غرف المرضى.
تبعتها آيات في حماس لم تفهم له معنى بحثت عنها في كل الغرف، لم تجد العروس، وقفت في وسط الردهة تحاول أن تفهم فداعب أذنها صوت مألوف.
" حاول أن تستريح يا حاج علي لقد أعطيتك مهدئا لكي تنام" كان صوتها حقا يخرج من غرفة الرعاية المتوسطة، تلك الغرفة التى يوضع فيها المرضى بعد أن تتحسن حالتهم قليلا وقبل أن يرسلهم الطبيب إلى غرفة إقامة عادية حيث يرافقهم الأهل تمهيدا لخروجهم من المشفى.
وقفت آيات عند باب الغرفة تسترق السمع وكأنها تبحث عن جواب لسؤال لم يسأل، لا يبدو أن هناك أي فائدة لهذه الرحلة، جلست آيات علي الكرسي الي جانب الردهة، لا تستطيع التفكير إلا في العودة حيث أتت، وضعت وجهها بين كفيها تناطح رغبة ملحة في البكاء، فما أسفرت رحلتها إلى حياتها الأولى إلا عن يقين أن هذا الشر الذي أطلق لنفسه العنان فخلق منها قاتل يديه مخضبة بالدماء ليس إلا شر تولد لديها وحدها، هي المسؤول الوحيد عن هذا الجرم وهي التي تمخض عنها الشر وحدها.
"كم أكره المرور أمام هذه الغرفة" سمعت آيات صوت احدى الممرضات تتحدث إلى زميلتها " فألها سيء ، كل يوم هناك متوفى في ذات الغرفة"
"نعم" ردت زميلتها " والعجيب أنه لا يموت فيها إلا كبار السن وبخاصة بعدما يبدأون في التحسن، وكأن الغرفة يسكنها ملك الموت"
رفعت آيات رأسها في وهن، قادتها قدماها إلى غرفة الرعاية المتوسطة تبحث عن مغزى لكل شيء، بالتأكيد لقاءها بذاتها في حياتها الأولى حدث جلل لا بد له من معنى، وقفت على باب الغرفة، الغرفة بها سرير واحد ومريض واحد لابد أنه حاج علي يبدو وجهه شاحبا ونفسه غير منتظم وصوت أجهزة حوله تطلق صفارات بصوت هادئ أولا ثم ما لبثت أن على صوتها في شكل إنذار، سمعت آيات صوت هرج ومرج وخطوات متوترة تجوب الردهة وممرضين وأطباء يسارعون إلى داخل الغرفة في فزع وقبل أن تتبين ما يحدث كانت الغرفة قد تحولت إلى ساحة قتال في محاولة لإنقاذ حياة جديدة كان قد سبقهم القدر اليها.
اعتصر قلب آيات في صدرها وتذكرت صوت العروس البريء الذي سمعته منذ دقائق معدودة.
"حاول أن تستريح يا حاج علي"
استراح عم علي ولكن يبدو أنه ذهب وترك دماءه على يد أحدهم، فزعت آيات وجرت تبحث عن العروس في كل مكان، التقت عينيها من جديد، نظرت فيهما بتمعن تبحث عن ألم أو ندم، لم تجد سوى برود وابتسامة مثلجة و غمزة جديدة من عينها اليسرى، امتقع جسد آيات في بحر من العرق البارد، لا تدري ماذا تعني تلك الغمزة، هل تظن العروس أنهما شركاء في هذا الفعل البشع؟ هربت آيات من عبء ضمير لفعلة قتل واحدة فإذا بها هنا أمام حياة كانت فيها قاتل متعدد القتلات.
همت بالخروج من المستشفي فتبعتها العروس لاهثة، أوقفتها
"تتبعينني منذ أسابيع ثم تهمين بالرحيل دون كلمة وداع؟!" قالت العروس في شيء من الغضب
"لمذا جئت؟"
"أردت أن أدرك حياتي الأولي إذ ربما أعلم متي تمكن الشر بداخلي" ردت آيات "لكنني أيقنت أنه ولد معي وتدنست به روحي منذ الخلق الأول"
"نعم صحيح فنحن شخص واحد اختلفت به الحياة" قالت العروس
" غير صحيح " ردت آيات في فزع " أنا لست أنت ولن أكون، أنا فرصة جديدة للعيش أعطانيها الرحمن وجولة جديدة مع الشر خسرت أولى معاركها ولكني لم أخسرها كلها"
"ماذا ستقولين عني إذا ما عدت؟" سألت العروس بابتسامة ساخرة
"سأقول أني أحمد ربي عن حجب عني ما فعلته من قبل وأني ولدت بسريرة بيضاء ناصعة والحق في الإختيار"
التعليقات