قامت من نومها في منتصف الليل فزعة، جذبتها قبضة خفية على ما يكسي صدرها من ملبس فأجلستها دونا عنها، فتحت عينيها في فزع لتجوب مقلتاها الغرفة الخالية إلا عن صوت أنفاسها المتهدجة، تعلقت عيناها بالسقف وقد تدلت منه ثرية عصرية أنوارها منطفئة "أضغاث أحلام يا مريم ليس إلا" طمأنت نفسها وهي تجفف العرق البارد عن وجهها وصدرها اعتادت مريم تلك الأحلام المزعجة حتى أصبحت إحدى طقوس النوم بالنسبة لها، لم يمر يوم منذ ذلك اليوم إلا وأقامها حلم كهذا على قدميها وكأن الكون يقتص منها.
جربت كثيرا من الوصفات الطبية والغير طبية ولكن كلما شرع علاج في العمل وجدت نفسها تعزف عنه، لا تدري ربما لأنها تشعر أنها تستحق أن يقتص منها أو ربما تفزع انها نامت على أثر الدواء لاحتبست في الحلم وما استطاعت أن تنهيه بالاستيقاظ، ماذا يحدث إن وجدت نفسها حبيسة الغرفة داتها وقد تدلى من سقفها ذاك الجثمان المترنح وقد انتفخت أصابعه وأزرق وجهه بعد أن ضاعت ملامحه، يأخذها الحلم إلى تلك اللحظة التي غيرت حياتها إلى الأبد ولكن يعزيها دائما أن تلك الساعات التي تعيشها في فزع في حلمها ليست سوي دقائق في عمر يقظتها وأنّ يقظتها ليست بعيدة. الماضي لا يعود لا يبقي منه سوى الألم، أما عن لحظات الجزع والفزع فزياراتها خاطفة ثوان في حلم.
ثلاث سنوات تدفع الثمن كل يوم تتساءل إن كانت تلك الفاتورة لها قيمة معلومة أم أن عليها أن تدفع عمرها كله تكفيرا عن عمر إدريس الذي أزهق بلا جدوى، تصحبها أفكارها دائما إلى تلك اللحظة وذلك القرار الذي اتخذته حين خطت خارج ذات الغرفة منذ ثلاث سنوات، حين قررت الرحيل هجرة خارج حياة ظن إدريس أنها كانت سعيدة، حين أخذت تلك الخطوة خارج الغرفة وأغلقت مسامعها عن نحيبه وكلمات متقطعة ودعها بها "سأقتل نفسي".
لم لم تستمع إليه؟ لم ظنت أنه يهذي؟ تجد نفسها تناديه كلما استفاقت من حلمها المزعج تناديه بكلمات ضنت بهم منذ ثلاث سنوات "لا تفعل!" ولكن من تناديه واراه الثرى منذ سنوات، مات وترك لها الندم وحساب ثقيل لا تستطيع سداده مهما سلمت نفسها لفزع الأحلام.
تخطو بحذر إلى مركز الأبحاث الذي تعمل به بفتور من لم يعد يعني لها المكان ولا الزمان شيئا، مائة وخمسون عاما بعد ظهور نظرية النسبية ولم يستطع العلماء استخدام العلم لإصلاح حياة الناس، لا تعلم لم لا تستطيع أن تعود لتلك اللحظة الفاصلة والتي غيرت حياتها فتصلح ما أفسدته في الماضى، ما قيمة العلم ان كنا لازلنا أسرى خط زمني أوحد.
في العشرين عاما الماضية تغير الناس كثيرا، علماء الاجتماع وعلماء النسبية رصدوا ظواهر غريبة تحدث لعدد متزايد من البشر، لا زالت تلك الظواهر قيد الدراسة ولكن بالفعل بدأت تنتشر بعض النظريات.
كانت مريم ضمن فرق الدراسة تلك والتي كلفت بدراسة ظاهرة انتشار المتنبئين، فبالرغم من تأكيد نظرية النسبية وأن الزمن ما هو إلا بعد نسبي وأن السير بسرعة الضوء توقف الزمن وأن الإنسان ان تمكن من تجاوز سرعة الضوء فان الزمن سيعكس وبالتالى يتحرك في الزمن ذهابا وإيابا بحسب سرعة سيره، بالرغم من كل ذلك إلا أن التطبيقات العملية لرحلات الزمن لم تنجح بعد، إلا أن المتنبئين زاد عددهم وكأنهم يرون ما سيحدث بوضوح كامل، أما عن النظريات الأقرب إلى التصديق فان الباحثين ومريم من بينهم استنتجوا أن الفاصل بين الخطوط الزمنية بات مهترئا حتى تمكن بعض الناس من الرؤية خلال ثقوبه. تلك الفواصل في النظرية أذابها محاولات البشر المستميتة في تخطي تلك الحواجز بالسفر بسرعة الضوء.
في نقاشاتها مع موسى رئيس الفريق البحثي يختلفون على قيمة الأهداف البحثية، الخطوات واحدة والغاية واحدة ولكن القيمة مختلفة، يؤكد موسى دوما أن الهدف الأسمى من السفر عبر الزمن ستكمن قيمته في قيمة المعلومات التي من الممكن أن تغير المجريات الاقتصادية ومخرجات الحروب والنزاعات الدولية " من يملك المعلومة سيملك الكون يا مريم".
هي على يقين أن المعلومة هي أغلي ما في هذا الزمن لا تستطيع أن تنازع في ذلك لكنها لازالت تجد قيمة في إصلاح الحياة بإصلاح ما أفسده البشر بقراراتهم، ان كان المستقبل موجود الآن فالماضي أيضا موجود ولا زال هناك قيمة في محاولة إصلاحه.
منذ سنوات علم الناس كيف أن هذا الكون أبعاده لا يمكن أن تكون من صنع المصادفة فكل ما فيه تتم معايرته بدقة متناهية، عجز الملحدون ووأصحاب نظريات الانفجار الأعظم وقوانين الانتقاء الطبيعي عجزوا عن تفسير دقة الاختلاف بين الخلق والضبط المتناهي للحياة فتأكد الناس أن للكون خالق، لم يعد هناك من يجادل في وجود الخالق ومنذ ذلك اليوم عاد البشر يسمون أبناءهم على أسماء الأنبياء تيمنا بمبدأ التسليم لقوانين الخلق الفائقة.
منذ فترة وجيزة خرجت مجموعة بحثية موازية باستنتاج يفتقر إلى الإثباتات، استمعت مريم إليه في حذر، شرح رئيس المجموعة البحثية شيئا عن التزامن في الأحداث وكيف أن علمنا بأن الشيء قد حدث لا يتزامن مع الحدث نفسه، كمثل سائق مركبة دخل في حادث كبير ورغم أن الحادث حصل بالفعل إلا أنه قد يمر بعض الوقت قبل أن يدرك السائق أنه كان في حادث. تطول هذه المدة أو تقصر بشكل نسبي لأن الزمن ذاته شيء نسبي.
"ان كنا نستطيع أن نأخذ من المستقبل ما يحسن حياتنا واختياراتنا فلم لا نستطيع أن نطأ الماضي فنصلح ما أفسدناه؟" تعرف مريم أن تلك اللحظة التي تزورها مرارا في حلمها ويقظتها هي تلك اللحظة التي وقف عندها تاريخها وحاضرها ومستقبلها وأخذ منحني لم تر بعده إلا تغيير المسار ولكنها أيقنت أن ذلك المنحنى كان بداية نفق سقطت فيه واستمرت في السقوط. لو عادت لتلك اللحظة لوقفت في ملتقى الطرق وأعادت بوصلتها من جديد قبل السقوط.
صباح جديد تستطلعه مريم جالسة على ذات الفراش الرطب بعرق الخوف والندم يدق قلبها ببطء وكأنه يعتصر، اليوم يأتيها قرار السفر الي تلك اللحظة الفاصلة، ان جاءتها الموافقة فربما تكون هذه أخر ليلة تقضيها تحت شبح جثمان إدريس وهو يتدلى من الثرية حيث وجدته ثلاثة أيام بعد أن تركته ورحلت منذ ثلاث سنوات.
يرن هاتفها ويأتيها معه الخبر مزفوفا، عليها الاستعداد للسفر اليوم، اليوم وبعد عدة ساعات ستكون مع إدريس من جديد، لا تذكر مريم السبب وراء انفصالهما، ولكن لن يكون ذا قيمة، لن يعنيها في شيء، ستغفر له كل شيء لن تخطو خارج الغرفة أبدا وتدعه لقهره، لا قيمة لعالم لست فيه يا إدريس.
تراه من جديد يقف في المطبخ وظهره للباب كم اشتاقت إليه! تدلى ذراعه إلى جانبه فرأت دبلتها في إصبعه الذي عاد للونه وحجمه الطبيعى ، وقف يقلب شيئا سيأكله على النار، لم يسمع صوت أقدامها من خلفه إنما شعر بيديها تلتف حول خصره وصدرها يدثر ظهره ودموع تبلل قميصه من الدبر
افتقدتك يا إدريس حتى الألم جاءت كلماتها من خلفه واختفت في صدره وقد استدار واعتصرها في حضن لم يتبين سبب حجم الإشتياق به، عدت من العمل يا مريم مبكرا، ماذا حدث؟
لا شيء لكنني لا أريد أن أضيع وقتا بعيدة عنك لم تشعر مريم بالأيام التي تلت ذلك اليوم، فما عادت أحلامها تنتزعها من حضنه، حتى كان ذلك اليوم الذي استفاقت فيه على صوت نقر على هاتفه في وسط الليل، تذكرت لحظات كهذه عاشتها من قبل،تلك اللحظات التي سبقت فراقهما الأول، نفس الكلمات سمعته يهمس بها "أرجوك لا تخبري مريم"
ابتلعت حسرتها من جديد فهذه الخيانة التي عاشتها من قبل تعيشها اليوم من جديد ولكن لن تتمكن من الرحيل، فرحيلها قرار اختبرته من قبل فلم يأت بأي سلوان لقلبها، بل احترقت بعده لسنوات.
أغمضت عينيها وهي لا تعلم ماذا تفعل، وضعت يدها على صدر خاو وابتلعت دموعها، ذكرها طعم البكاء الصامت بتلك الليالي الموحشة التي عاشتها في زمن آخر فهدأت من جديد.
مرت أيام والنقر على الهاتف لم ينقطع ولا الهمس ولكن زاد عليهم حزن بات يكسو وجه إدريس، عزف عنها كثيرا وباتت ترافقها دموعها ووحدتها إلى النوم كل يوم. أدركت أن إدريس لم يعد يحبها، ربما سيتركها قريبا لا تعلم ولكن نخر الشك في عظامها، باتت لا تفكر إلا في تلك التي فضلها عليها، ترى أهي أكثر جمالا أم أنها منحته ما فشلت فيه هي، في بحر التفكير هرب النوم من جديد وأصبح يوقظها كل يوم حلم جديد، ترى فيه امرأة أكثر منها جمالا في حضن إدريس، تغمض عينيها وتشتم رائحته وتذوب في قبلاته، تصحو كل يوم فزعة في فراش خالي وغرفة مظلمة خالية من شبح امرأة شقراء لا توجد إلا في أحلامها.
مرت أسابيع قبل أن تتخذ قرارها، عليها أن تقابل تلك التي تفتن زوجها، ستبحث عنها في هاتفه وهو نائم، ابتلعت غصتها التي اختنقت بها لأسابيع وهي تبحث في رسائله ذات ليلة حتى وجدتها "سارة" رسائل كثيرة وكأنه لا يحادث سواها، انكمشت عروقها هي تستعد لتقرأ غزل زوجها لإمرأة غيرها، أغمضت عينيها لتحرر دموعها وهي تقرأ " تعبتك يا سارة أشكرك علي النتائج"
أي نتائج؟
ماذا يعني؟
تصفحت الرسائل الأقدم قليلا فانفتح ملف به أرقام لم تفهم منها شيء، عليه إسم إدريس وفي ذيله كلمات بالإنجليزية لم تفهم منها سوي كلمة "خبيث"
انفجرت أهة من صدرها أجلستها على ركبتيها في وضع أشبه بالسجود لم تتضرع فيه ولكنها استسلمت
جابت الرسائل حتى وصلت إلى رسالة وجدت فيها اسمها "أرجوكي لا تخبري مريم" ورسالة قبلها تبدأ بكلمة "للأسف" لم تكملها مريم
استيقظت من جديد فزعة وصورة جثمان إدريس يترنح من السقف، تلقفت الهواء إلى صدرها وهي ترتدي ملابسها وتمشي بخطى أثقلها ندم لم يغتفر ، أجلست نفسها أمام موسى وهي تنتفض، خبأت عينيها وخيبتها وأسلمته التقرير، ربت موسي على كتفها في إشفاق "هناك مخرج لكل تجربة يا مريم، لا تبكي أرجوكي ولكن فكري في ذلك المخرج، حتي النتائج السلبية هي نتائج تستحق النشر"
أخرج موسي نتائج الرحلة التي قادها بنفسه الي المستقبل، نتائج سلبية باءت بالفشل، المعلومات التي جمعها في رحلته لم تعد ذات فائدة حين عاد بها، أسعار المحروقات التي تنبأها لم تكن صحيحة و نتائج المباريات التي راهن عليها كذلك، أدرك أن المعلومة لاقيمة لها ان خرجت من إطارها الزمني.
زفرت مريم حسرتها وتمتمت " لا يمكن تغييره يا موسي، فما حدث وما لم يحدث حدث بالفعل يمكننا أن نزوره بالعلم او في الأحلام ولكن لن نستطيع تغييره، الفرق الوحيد بين الماضي والمستقبل هو إدراكنا وعدم إدراكنا لا يعني أنه لم يحدث بعد، هو حدث ولكننا نعيش في فترة ما قبل الإدراك"
أتدرين يا مريم أن هذا يعني أننا لانملك من الماضي أو الحاضر أو المستقبل شيء، لا شيء نفعله سيغير أي شيء.
هذا صحيح ولكن في وقت من الأوقات كان لنا قرار وخيار واتخذناهما فصنعنا ماضي وحاضر ومستقبل ولكننا لم ندرك بعد.
أغلقت مريم أوراق بحثها ومعها كل أمل في الخلاص. لا يوجد خلاص إلا في رحمة الخالق أما نحن فلم نعد هنا، انتهت حكايتنا منذ زمن بعيد لكننا لازلنا نستحضرها في أحلامنا تأتينا قطعة بقطعة تماما كحكاية إدريس مات منذ زمن بعيد ولكنه لازال يعيش في أحلامها كل يوم يجلي جزءا من حكايتهما، يذكرها بوقت كان لها قرار واختارت، تحاول جاهدة في حلمها أن تنقذه، تعتذر له، تصلح ما أفسدته ولكنها ما عادت تملك الاختيار لأن حكايتهما انتهت وهي تعيش معه الآن رحلة الإدراك.
التعليقات