على هامش فاعليات معرض القاهرة الدولي للكتاب، حدث موقف مختلف لدي رغبة في سرده باستفاضة.
بالأمس وبعد يوم طويل من اللقاءات والمقابلات والتوقيعات، حركة وسعادة وبهجة وأصدقاء نراهم من العام إلى العام.
قبل نهاية اليوم بحوالي ساعة وأنا أستعد للمغادرة وجدت طفل صغير عمره لا يزيد عن العام والنصف يتجول وحيدا، قفزت من مكاني فورا، حملته بين ذراعيّ ووقفت في مكاني أنادي لعل أحد من أهله في الجوار.
سألت عن مكان الاستعلامات والتقيت بالضابط المسئول عرفته بنفسي وأبقيت الطفل في حضني وأنا أتحدث.
ظل الطفل في حضني هاديء لا يبكي لكن بفطرة الأم كنت أعرف أنه مرعوب. رباطة الجأش التي يحملها الطفل "جمال" في صدره أذهلتني.
بقيّ الضابط ينادي في الميكروفون لما يقرب من نصف ساعة بمواصفات ملابس الطفل، وبقيت أنا ممزقة القلب كلما مر الوقت أخشى على الصغير من ألا نعثر على أهله.
اقترب وقت إغلاق الأبواب وبدأت السيناريوهات المؤلمة تخالج صدري، محضر في القسم، تسليم الطفل لإيداعه في إحدى دور الرعاية … حبست دموعي بأعجوبة وتضرعت إلى الله أن يرده سالما لأهله.
ثم بدأ عقلي يدور في اتجاه آخر ، ماذا لو لم تكن التي ستأتي أمه؟ كيف أتأكد؟ لابد أن أرى بنفسي ما يطمئن قلبي. قررت ألا أترك الصغير لأحد سوى بعد أن يطمئن قلبي.
جلست مع الصغير "جمال" نتصفح الصور على الموبايل، علمته كيف يُقَلِب الصور حتى بدأت أشعر أنه متوتر مرة أخرى.
أخرجت روايتي من حقيبتي وأعطيتها له، أذهلني الصغير بأنه يتصفحها كأنه يقرأها.
عجيب هذا الطفل بهدوئه وقدرته على ضبط نفسه وهو لا يزال بعد طفل وليد. لقد كان الصغير رابط الجأش ما لم أستطيعه أنا وقد تخطيت الخمسين.
ثم ظهرت سيدة عند باب الغرفة مرتعبة نظرت للصغير وعيناها مغرورقتان بالدموع. مرة أخرى أذهلني جمال بهدوءه ونظرته العميقة الصامتة لأمه وما هي إلا لحظات ورفع إليها يداه لتحمله.
يا الله … إنها فعلا أمه!
لم احتاج أن اضطلع على صورة لهما سويا فبعض المواقف أبلغ وأقوى من أي حديث.
سلمت الجميل "جمال" لأمه وتنفست الصعداء. عرفت بعد ذلك أن جمال سوري وقد كان كل أهله بجوارنا منشغلين في بيع الكتب فلم يشعروا بغيابه.
عدت إلى مكاني أطمئن الناشر ومجموعة الأصدقاء أن الطفل بين أحضان أمه. دقائق ووجدت الأم وابنها الجميل بجواري وترغب في شراء روايتي "ركن ليلى".
وقعت الرواية بإسم جمال أصغر وأجمل وأرق وأطيب قاريء لروايتي. ثم تقدم كل الأهل الموجودين بالشكر واطلقوا عليّ لقب "المنقذة".
انتهت القصة بخير بلا ألم وبرحمة من الله رب العالمين.
لقد شعرت بهذا الطفل الجميل وأحببته كما أحب أبنائي. عجيبة تلك المشاعر الإنسانية التي تجعلك تتعلق بأحد لم تراه سوى لحظات. اجلسته بجوار قلبي وهدأ في حضني، اُقَبِله واُربت على كتفيه وصدره وظهره كي يطمئن. لقد أجبرني الصغير على محبته؛ لم أكن أعرف أن طفل صغير في هذا السن يمكن أن يكون دمث الخلق.
إن الحب يا أصدقائي يسكن في مضغة صغيرة بين أضلعنا يقال لها القلب. من هذا القلب تتدفق الرحمة وينهمر الحنان ويبقى ينبوع الدفء يُعَمِر القلوب لتظل حيّة نابضة بكل هذا الجمال.
خلق الله تعالى الرحمة في مائة جزء أبقى عنده تسعة وتسعون جزء وأرسل إلينا جزء واحد على الأرض، تحنو به الأم على وليدها ونتراحم به بعضنا البعض، نصبر ونتحمل وندفع به عن أحبابنا الهواء البارد الذي قد يضرهم.
سلني عن حياة حلوة تود أن تعيشها أجيبك كيف حال قلبك؟ كيف حال خيوط المودة التي تُدَثِر بها قلوب أحبابك؟ وكيف تنفر روحك في مواجهة الشدائد؟
ثم سلني ثانية عن الحب أقول لك انظر في وجه الجميل "جمال" لتعرف ما هو الحب وكيف تعبر عنه وكيف يكون الصمت حديث وكيف تكون البسمة أمان.
أتمنى أن أعيش لأرى "جمال" شاب يافع وأن يحقق الله رؤية قلبي فيه بأن يكون إسم على مسمى ليظل شاهدا على محبتي له وأنه كان ولا يزال بكل هذا الجمال.
التعليقات