سألت نفسي كثيرا لماذا نَحِّن لذكرياتنا؟ لماذا نتشبث بها؟ لماذا نستدعي تلك الأيام واضعين خطة محكمة لمراجعتها والتأكد من عدم فقدانها وكأننا في إمتحان؟ لماذا نرفض التخلي عن جميل ما مررنا به؟ لماذا نتعلق بأيام أسعدتنا وأحزنتنا وأحيانا قتلت جزء من قلوبنا؟
الإجابة بسيطة يا صديقي، لأن كل ما مررت به في دنيتك جعلك نسخة مختلفة من نفسك التي تعرفها اليوم.
أنت لم تعد أنت، أصبحت شخص آخر تعرفه!
كانت هناك حياة تسكنك قبل أن تترك دنياك القديمة، كانت هناك روح بسيطة نقية لا تعرف سوى الوضوح والرؤية المحددة، وكنت تظن أن هناك أمنيات ترفض ألا تتحقق سوى من خلالك.
ثم مررت بسنوات جيدة وأخرى طاحنة، علمتك أن تتحفظ في حضرة القدر.
تعلمت بلا شك أن ليس كل ما تتمناه تجده، بل يمكن أن تصل لأفضل منه، أدركت جيدا أن حياتك في هذه الدنيا مرهونة بنظر الله لك وليس بجودة سلوكك في دنيتك.
أدركت أن ليس الجميع يتمنى لك الخير ولو لم يعرفك، وأن البعض يجتهد بحق في كراهيتك دون سبب يسْتَوْجب ذلك، وأن الكثير من البَشَر يجدك غير مُسْتَحِق لنعمك.
أما أسوأ ما ستمر به هو أنه رغم أنك تجتهد بحق لتكون نسخة مختلفة عن كل الأنفس التي سكنتك، أنك طورت نفسك وشذبت من روحك، أسكنت في قلبك حب الخير بلا شروط ولكل البشر، تعلمت أصول واجباتك ولم تتشدد في حقوقك بل تصدقت بكثير من عنفوان روحك على كل من تحب بمنتهى الصبر والحب والجمال.
تعلمت كيف تحب، كيف تتعاطف مع غيرك وتوجهه لما فيه اعتدال قلبه، صنت الكرامة وسندت القلوب. لقد نسيت الكثير من العطاءات رغم أنك كنت الرحمة التي مسحت التجاعيد النفسية عن بعض القلوب. أنت نسيت لأن فعل المحبة أصبح جزء من خلايا قلبك فلا يسقط عنك سوى الخير ويعف لسانك عن مساوئ البعض وحتى عن تذكرها.
رغم كل ما سبق يا صديقي ستقابل وتصادق وتجاور في كثير من الأحيان من لا يُقَدِرَك، ستحلم أن تسكن في قلب أحدهم لكنك كلما دخلت إليه ستجد أن المكان ضيق عليك. ستكون مجبرا على الوقوف أو الجلوس في أوضاع تزعجك بشدة، لن تجد مقعدا وثيرا يخصك، رغم أنك تستحق أفضل مكانة لكنك لن تصل إليها أبدا.
ستقنع نفسك في كثير من المواقف أنك كنت مبالغ في تقديرك لبعض المتاعب وبعض المشاعر المُفْتَقَدة وتجبر قلبك على التعايش مع كوب ماء يوميا رغم أن احتياجك للماء يزيد عن ذلك؛ ستتعلم تَقَبل المتاح.
يقال أن القلق يعطي للأشياء ظلا وارفا، أما كسرة القلوب تجعل مرورك على أرض الدنيا أشبه بالجحيم. إن بعض ظلال القلق التي تجابهها قد تدفع عن بعض الأرواح صهد الجحيم.
مساحات التقبل التي ظَلَّلت بها على أرواح كانت تصاحبك أصبحت اليوم مساحات تخصك.
بروح المقاتل تحتاج اليوم أن تدرك أن الضيق في قلب أحدهم هو النافذة الوحيدة التي تحتاجها لتكتفي بنفسك، أن الهواء المنبعث من قلبه غير كاف اليوم لأن تتنفس، وأن الإنعاش الرئوي لن تحصل عليه إلا إذا قمت باستخدام أجهزة التنفس الداخلية الخاصة بك.
أنت تماما في المكان والمكانة التي تستحقها، ولو أظهر سكان الأرض كلهم غير ذلك لا تهتز. أنت تكفي لبناء إمبراطورية من الجمال منحوته على صخر صوان مكتوب عليها: "هنا يعيش إنسان جميل"!!...
نعم أنت جميل واستمر جميلا لنفسك! لا تصدق من يقول افعل الخير كي تحصد الخير.
افعل الخير لتكون روحك في مكانتها المستحقة، كي يؤازر قلبك اللطف الخفيّ.
افعل الخير لتظل تُبحِر في فيض جمالك، الكثير من البِشْر يضيع على قلوب غير مكترثة، ولأنك أول من يستحق العوض الجميل ستجده بداخلك وأنت راض عن قدرك، راض عن مكتسباتك، راض أنك حاولت واجتهدت، ممتن لكل نتائجك، غير مفتقد لروحك القديمة بل مؤتنس بها، تعلمت فن التقبُل والتعايش مع أي وضع يضَيّق فيه على القلب فاكتسبت مناعة ذاتية تواجه بها فراغ قلبك.
صديقي تمنى السكينة لنفسك حتى تحصل عليها. الحياة دوما يغزوها الحزن، فلا تستهلك كل طاقتك وأنت تتعايش، اطلب من الله ان يتدخل ويمنحك مسحة شافية لقلبك.
على السعادات المنقوصة تقام الكثير من الحيوات. سعادة منقوصة خير لك ألف مرة من الأيام الخاوية!
أما عني سأدعو الله أن يُنزِل سكينته على كل القلوب، أن تسير حياتكم على دروب احببتموها، أن تتوارى التفاصيل المؤذية وأن يحل عليكم السلام رغم الوحدة ورغم ندرة الدواء.
سأدعو لكل قلب أن يرضى عن من يكون، سأدعو لك لتجد من يتقبلك ويحبك كما أنت وليس كما يجب أن تكون، وإن لم تجد هذا الشخص يا صديقي فاعلم أن أني كتبت لك تلك الكلمات لأقر بأنك ستظل دوما تكفي!
التعليقات