التقاعد من المفترض أن يعبر عن ختام رحلة طويلة وربما شاقة من العمل والاجتهاد، وبدء مرحلة من الاستمتاع بالوقت وإنجاز ما لم يتمكن المرء من القيام به بسبب مشاغل الوظيفة، ولكن للأسف تحول بلوغ سن المعاش لدى البعض إلى نوع من الاكتئاب والقلق والإحساس بأنه شخص زائد وربما غير مرغوب فيه، ليتحول من مشاعر "حسن الخاتمة" إلى حالة "حزن الخاتمة"!
عايشت مؤخرا تجربة بعض الأقارب والزملاء الذين بلغوا سن المعاش ولمست هذه المشاعر لدى الكثيرين منهم لدرجة أن بعضهم لم يستطيع تحمل الأعباء المادية والنفسية لتلك المرحلة فلحق بالرفيق الأعلى بعد أسابيع قليلة من تقاعدهم!
الأمر يحتاج إلى وقفة، فعلى عكس النظرة الإيجابية لهذه المرحلة في المجتمعات المتقدمة، تسود نظرة سلبية لها في مجتمعاتنا العربية، حيث يعتبرها البعض نهاية حزينة لرحلة العمل الحافلة، ويرون أنفسهم مقبلين على مزيد من المتاعب، وعليهم أن يبقوا في انتظار الموت!
هذا الجانب النفسي عادة ما يمثل أهم هموم المتقاعدين، بخاصة خلال الأيام الأولى التي تعقب ترك العمل والتي تعد الفترة الحرجة لديهم، فيتعاملون معها على أنها مرحلة خسائر من أوجه عديدة، أولها، الخسارة المادية الناتجة عن تراجع الدخل الذي يحصل عليه المتقاعد مقارنة بدخله خلال العمل، مثلا الصحفيون يحصلون على أقل من ربع دخلهم بعد التقاعد، كما أن البعض يحال للتقاعد ولاتزال أمامهم مسئوليات تجاه أبنائهم تتعلق بالتعليم أو الزواج، فضلا عن غلاء المعيشة. تتلوها الخسارة المعنوية حيث يفقدون العلاقات وربما النفوذ الذي كانوا يستمدونه من وظيفته، ثم الخسائر الصحّية مثل ظهور أعراض تقدم السن والشيخوخة تباعا، وقد تؤدي الإصابة بأي عجز نتيجة للأمراض، إلى فقدان القدرة على الحياة المستقلة دون الاعتماد على الآخرين.
كما يتغير نمط حياة المتقاعد بصورة كاملة، فبعد أن كان يقضي جزءا كبيرا من وقته في العمل ويلتقي بزملائه وبعضهم أصدقائه، يجد نفسا مضطرا للبقاء بالمنزل، وفي بعض الأحيان قد لا يكون هذا الوضع مدعاة لسرور أسرته فيشعر بأنّه غريب في بيته، وإذا فكر في مغادرة المنزل ربما لا يعلم أين ستكون وجهته؟ وقد يقع في مصيدة الفراغ القاتل، فيمر الوقت بطيئاً مع تزايد شعور بالوحدة والعزلة.
لبعض هذه الأعراض أسس علمية حيث ذكرت بعض الأبحاث أن الإنسان عندما يتوقف عن العمل تتوقف معه طاقات كبيرة جسدية ونفسية وعقلية، ومن ثم لا تجد تلك الطاقات مخرجاً لها، ومما يؤدي بشكل مباشر إلى حدوث اضطرابات نفسية وذهنية، غالباً ستكون بداية رحلة التدهور السريع في صحته. يزيد من وطأة ذلك شعور البعض، بتخلي الآخرين عنهم أو أنهم لم يقدموا لهم الدعم المتوقع وأنهم أصبحوا عالة بعد أن كان عائلين! وتطلق على هذه الحالة (متلازمة التقاعد) التي يصاحبها عادة أعراض ومشاعر سلبية، مثل الإصابة بالاكتئاب وربما بعض الأمراض الجسدية. وتظهر هذه المتلازمة بشكل أكثر وضوحًا عند من كانوا يشغلون مناصب إدارية وسلطوية، حيث تذهب عنهم مباهج السلطة ومكاسب المنصب، كما تظهر أيضا لدى الذين يعملون حبا في العمل، وربما لا يجيدون شيئا آخر في الحياة غير أعمالهم، حيث يصاب هذا النوع عند التقاعد بالخوف والقلق الشديد، لشعوره بأنه سوف يصبح غير نافع ويصاب عادة بالاضطراب النفسي وربما الاكتئاب.
لذلك فإن هذه المرحلة تتطلب تفهما من جانب مختلف الأشخاص المحطين بالمتقاعدين، بدءا من الجهة التي يعمل بها وزملائه، وانتهاء بأهل بيته، ولكن للأسف يحدث عكس ذلك، حيث يعاني البعض كثيرا في انهاء إجراءات التقاعد وينتظرا طويلا قبل الحصول على مستحقات نهاية الخدمة.
وفي البيت تتغير طقوسه اليومية حيث يبقى لفترات طويلة داخل المنزل، واذا لم يكن هناك من يشغله، فقد يؤدى ذلك الى حدوث مشكلات مع أسرته بخاصة اذا لم تراعى حالته النفسية في تلك المرحلة، وبعضهم يواجه نوعا من النكران من جانب أولاده قد يصل إلى ايداعه في دور رعاية المسنين أو على الأقل قد لا يجد التقدير المتوقع من الذين كرس حياته كلها لأجلهم. ولكن هناك آخرون على عكس ذلك تماما، يقبلون على حياتهم الجديدة بكل حماس وتفاؤل. وهذا موضوع لمقال آخر.
التعليقات