تتجلى أعراض الأمية الثقافية في العديد من المشاركات والشواهد، وبخاصة المشاركات الشبابية في البرامج الحوارية وفي الأحاديث اليومية وفيـما يصل إلينا في الصحافة الثقافية من أخطاء في الكتابة والتعبير والأسلوب، ناهيك عن قواعد النحو والصرف والإملاء.
أيضًا تتجلى هذه الأعراض لدى بعض من يدعون الثقافة ويقومون بتقديم جوانب منها في بعض وسائل الإعلام فيخطئون في المعلومات العامة، وحتى في نطق الحروف العربية، وقواعد نحوها وصرفها. كنت جالسًا أمام شاشة التليفزيون – منذ أيام قليلة - فوجدت إحدى المذيعات في قناة فضائية تبدأ حديثها بقولها: ثلاثةِ أهداف (بكسر المبتدأ) وطوال عمرنا نعرف أن المبتدأ يُرفع بالضمة ولا يجر بالكسرة أبدًا. وكان من الأفضل لها أن تنطق الرقم بالعامية مع تحفظنا على كثرة العامية المتفشية في جميع وسائل الإعلام الآن، والذي يعد عرضًا آخر من أعراض الأمية الثقافية. مع يقيننا بأن الثقافة أوسع من ذلك بكثير بطبيعة الحال.
أيضًا تتجلى هذه الأعراض فيما نراه من كتب عن الخرافات والجن والشعوذة والفتاوى غير المستندة إلى أحاديث صحيحة وغير منطقية أو علمية، وغير ذلك من أعراض تتفشى وتنتشر في جسد المجتمع العربي عمومًا كانتشار النار في الهشيم.
أما عن أسباب الأمية الثقافية فهي كثيرة أيضًا ولكن البداية تكون دائمًا من التعليم، فالتعليم هو القاعدة الأساسية للثقافة، وبغير التعليم لا تكون هناك ثقافة حقيقية، وقد يقول قائل إن عملاقًا مثل العقاد لم يحصل في تعليمه سوى على الشهادة الابتدائية، ولكن العقاد هو الاستثناء الكبير من قاعدة التعليم، وليت عندنا آلاف العقادين (أو العقاقيد) الذين ثقفوا أنفسهم بأنفسهم بعيدًا عن قالب التعليم الذي يخرج لنا شبابًا (من الجنسين) لا يعرفون عن أمور حياتهم ودينهم ودنياهم وماضي أمتهم ومستقبلها شيئًا سوى بعض التهريج ونحت بعض الكلمات الغريبة على مجتمعاتنا وبيئاتنا.
وكلنا نلمس الآن الأوضاع المتدهورة للتعليم في البلاد، ليس في مصر فحسب، ولكن في دول الخليج العربي أيضًا التي تنفق بسخاء على التعليم في مدارسها وجامعاتها، وأحيلك إلى أوراق مؤتمر "مخرجات التعليم وسوق العمل في دول مجلس التعاون الخليجي" الذي نظمه مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، ونقرأ فيها أن التعليم في دول مجلس التعاون يعاني الكثير من أوجه القصور؛ ومن ذلك: تبني أساليب تدريس تقوم على الحفظ والتلقين، بدلًا من التفكير والتحليل العلميين، وضعف استخدام التكنولوجيا، وتدني عدد الطلبة المقيدين في برامج الدراسات العليا مع ملاحظة تزايد التركيز على التعليم العام على حساب التعليم الفني والتعليم المهني. وهي أساليب نراها متفشية في معظم مجتمعاتنا العربية، فهل يحقق مثل هذا النوع من التعليم ثقافة نفخر بها، وتكون امتدادًا لثقافة الأجيال الماضية التي كانت في معظمها ثقافة موسوعية.
أما العلاج فيبدأ أيضًا من التعليم، فلو انصلح حال التعليم في بلادنا لانصلح معه حال الثقافة، وتغير وجه المجتمع، وهذا الكلام ينطبق على الثقافة الإلكترونية أيضًا التي تنتشر في مجتمعاتنا دون أرضية رصينة أو حقيقية للحاسب الآلي الذي أصبح وجوده في كثير من الأماكن وجودًا مظهريًا فقط، دون الاستفادة الثقافية الحقيقية منه ومن شبكة الإنترنت المتشعبة الأغراض.
وأنهي هذه المداخلة بتجربة لي في كوريا الجنوبية حيث قمتُ بزيارتها عام 2007 ووجدت مجتمعًا متقدمًا مثقفًا ينافس الدول الكبرى الآن، وبالمناسبة، كوريا الجنوبية بدأت نهضتها واستقلالها مع مصر تقريبًا في أوائل الخمسينيات، أو بعد عمر الثورة المصرية بعام، فهم بدأوا مسيرتهم عام 1953 ولكن تجاوزونا بكثير، وعندما سألت عن سر تلك الطفرة هناك في المصانع والشركات والمدارس والجامعات وأساليب الحياة والثقافة الحقيقية هناك قالوا لي: التعليم، ثم التعليم، ثم التعليم.
التعليقات