كثيرا ما قرأت الآية الكريمة (فما بكت عليهم السموات والأرض) أمر عليها فتصيبني بالدهشة والحسرة على أولئك الناس. من هؤلاء وأي حياة عاشوها ليكون هذا جزاؤهم؟ يقول المفسرون أن المقصودين هم من لا إيمان لهم ولا عمل صالح يفتقده أهل الأرض وأهل السماء. يا لهم من بؤساء ويا لها من عقوبة أدبية جسيمة! ما أبأس من يعيش بين الناس ويتمنى الجميع لو أنه لم يكن يوما بينهم! ويزيد بؤسه عندما يموت فيفرح أهل الأرض ولا يبكيه أحد. كبرت وعركتني الحياة وقابلت في حياتي الكثير من الأحياء الأنقياء الذين توافيهم المنية فتترائي لي الآية الكريمة ويتجسد أمامي مشهد بكاء أهل الأرض وحزنهم على الفراق ومشهد السماء وما فيها وهي منكسة الأرض حزنا على موتهم. توافد على هذه الأرض مليارات البشر عاشوا عليها وامتلأت طرقاتها بأفعالهم ومقاصدهم. لكن من فيهم كان صاحب أثر حقيقي؟! حقا هناك من تهتز القلوب لفقده وموته وانتهاء علاقتة بالحياة والأحياء وهناك من يتنفس الناس الصعداء لموته ويحمدون الله على زوال شره فوجوده كان مصدر إزعاج وتهديد أراحهم الموت منه.
يعيش الإنسان ويموت وبين الحدثين يترك بصمة تذكر له أو عليه. فما الذي يجعل موته حدثا تهتز له الدنيا؟ حضرت جنازات وسمعت عن وفيات ساوى بينهم الموت في الفعل لكن لم يساوي في ردة فعل المحيطين بالمتوفى. يقول الكتاب مارك توين أن علينا السعي في الحياة بأفضل ما يكون لنصل لمنزلة يبكينا الجميع حتى حفار القبور. ويقول العرب مات فلان فلا بواكي له كناية عن مكانته وافتقاد من يحزن لفراقه. فما الذي فعله هذا أو ذاك ليستحق أن تبكي عليه السماء والأرض أو ألا يبكيه أحد؟!
راقبت أثر من رحلوا وظلت ذكراهم حاضرة في نفوس الجميع. ترى ماذا فعلوا في حياتهم وكيف كانت أفعالهم حتى استحقوا هذه المكانة؟ حتما لم يكن الأمر سهلا وتطلبت الحياة منهم الكثير من التضحيات والتنازلات والحكمة وإيثار الغير. لابد وأنه كان عملا دؤوبا وديدنا ثابتا. تأملت سيرة أحد الصالحين فتيقنت الإجابة: عش كريما عفيف اللسان بش الوجه. كن في عون الجميع قولا وفعلا. كن كالمطر أينما هطل نفع. حب لأخيك ما تحب لنفسك صدقا وعملا. اخلص نيتك في عملك. لا تنافق. لا تضمر حقدا ولا تفكر في الأذى. كف الأذى ولو كان كلمة تلقيها بدون قصد. الإيثار فعل صعب لا كلمة نتشدق بها. هب لنصرة المظلوم. لا تتدخل فيما لا يعنيك. اخفض بصرك عن حياة غيرك. اتق الله في أفعالك. فعل السر وليس بينك وبين الله حجاب هو المقياس الحقيقي لكل ما تعتنقه من أفكار ومباديء. فكر في الفقير وامسح دمعة الضعيف. قوتك في رحمتك لا في جبروتك. عباداتك لك وحدك ومقدار إخلاصك فيها بينك وبين خالقك وحده ووهي ليست مقياسا لورعك ولا يافطة تعلقها ليرفع الناس قدرك.
وأنت يا من لا بواكي لك؛ ترى كيف كانت حياتك؟ كنت مقيتا مؤذيا يتجنبك الناس مخافة شرك وسلاطة لسانك. لم تلتمس لأحد عذرا يوما. كنت أنانيا لا تفكر إلا في نفسك ومصالحك. لم تتمن الخير لغيرك ولم تمد يد العون إلا لو كان لك حاجة من وراء ذلك. تفننت في الظلم ولم تراع ضعيفا ولا صاحب حاجة. استبحت الآخرين أموالهم وحياتهم. لم تراعِ حق أجير ولم تمسح دمعة يتيم. عشت مغرورا بمالك وقوتك. المراء ديدنك والرياء لباسك.
مهما طالت الحياة فمآلها إلى زوال. تطوى صفحاتها وتنسى أيامها ولا يبقى إلا الذكر الطيب. لا تدوم إلا الكلمة الطيبة والفعل المؤثر فيبقى الأثر وإن مات فاعله. من عاش طيبا بين الناس يفتقده الناس ومن عاش مكروها بينهم ذهب كأن لم يكن. كن كالغيث يحمل الخير وتتهلل له القلوب ولا تكن ابتلاء في حياة غيرك كالسيل الجارف الذي يكتسح الأخضر واليابس فيستعيذ منه الناس جميعهم! كن ترياقا لا سُمَّا زعافا!
التعليقات