في أحد أيام الأسبوع الماضي صادفتني لقطة مختلفة عن الحياة. عادتي أنني أستيقظ مبكرا لأعطي لنفسي فسحة استقبال اليوم بهدوء ما تمكنت من ذلك.
تراني في الصباح الباكر أمام فنجان القهوة وكوب الشاي باللبن لا أطالع سوى أحد أربعة أشياء على التلفاز: ١- موسيقى هادئة تنساب معها أصوات الطيور وصور الطبيعة والفراشات meditation، ٢- كرتون بطوط أو بلوتو، ٣- كرتون Peter rabbit، ٤- فيلم أبيض وأسود غالبا لإسماعيل يس أو محمد فوزي.
نعم أفعل ذلك منذ سنوات، اقتطع من نومي لأدخل عالمي المفضل. الكل مهما بلغ به العمر يحب أن ينزوي في ركنه المفضل أو كما يسمى ال comfort zone.
هذه الدقائق القليلة لها مفعول السحر على هدوئي وراحتي وتقبلي لصعوبات اليوم وتقلباته.
على التلفاز رأيت طائر الحباك أو كما يطلقون عليه "الطائر المهندس" يغْزل عشه بعناية فائقة على طرف أحد أفرع الأشجار المتهدلة.
العش المعلق لا يمكن ليد بشرية أن تحيك مثله، مغلق بعناية مذهلة وله فتحة جانبية واحدة لأسفل، يتحرك مع حركة الرياح لكنها لا تسقطه.
يأتي السؤال الذي تبادر لذهني، كيف لا تهاجم المفترسات مثل هذا العش المعلق الضعيف؟
إن أحد وسائل الحماية الرئيسية في هذا البيت الحَصين هو خفة وزن العش والطير وأن العش منسوج على فرع طَرَفْي خفيف من الشجرة لا يتحمل وقوف الضواري.
أحد أفضل وسائل الحماية ألا تترك عتبة على باب بيتك يقف عليها من لديه فضول التعرف على حياتك.
خلق هذا الطائر على الفطرة ولا أظنه يعلم أننا اليوم نتحدث عنه أو نستفيد من أسلوب حياته.
نحن نتلقى العِبرة من كل شيء حولنا، والعين التي تلاحظ هي ما تصنع الفارق المحسوس في دنيانا.
إن كل تجاربنا التي خرجنا منها ناجين قد دفعنا ثمن تعلُمنا فيها غاليًا، لكن بعض المقاعد المريحة أمام صور الحياة من حولنا تجعل الكثير من التعلم دروس قيّمة ومربحة.
إذا أغلق الناس أبواب بيوتهم تساووا، فلا يصلح بعد أن تغلق بابك أن تنشر أفراحك ولا حتى أحزانك فكلاهما يخصك وحدك.
سيرة الناس أحيانا تكون الشاغل المحبب لبعض البشر، فأحدهم يقتله الفضول للتعرف عن ما يُحاك بداخل جدران بيتك.
منذ عدة سنوات كنت أربي عدد هائل من الطيور. أحد الأقفاص الكبيرة كان يحوي أربعة أزواج من الطيور الأسترالي البديعة يعيشون في سلّاكة مستطيلة، يفصل الأربعة أقفاص حاجز من البلاستيك تنزل عليه فضلات الطيور.
في أحد الأيام قمت بنزع الأطباق البلاستيكية الأربعة دفعة واحدة للتنظيف، فتعرف كل زوج من الطيور على الجيران من فوقهم ومن تحتهم.
هنا نشبت معركة حامية الوطيس بين الطيور، الزوج يضرب زوجته لأن جاره يصفر لها والزوجة تصفر للجار الذي يعلوها ويقوم نفس الزوج الذي يسكن بأعلى بضرب زوجته لأن جارها العلوي يغازلها وهي تجاهد ألا تبدو مستجيبة.
وقفت عاجزة يخالطني الشرود والضحك والاضطراب، ولا عجب فهم أُمَمٌ أمثالنا.
نشب صراع دامي بين المجموعة لأكثر من ربع ساعة بدون توقف، أحدهم يغرس منقاره في القفص بالاسفل ليعُض غيره والآخر يطحن وليفته وينقر رأسها بعنف وقد قمت بتصويرهم بالفيديو قبل وضع الفواصل.
تستطيع أن تتبين أن الطيور تَسُب بأقذع الألفاظ عندما يقتضي الأمر، وأنها تُسَبِح وتُصَلي وتتحدث، تغضب وتنفعل أحيانًا حد الموت.
خارج حياة الأسر تحفظ الطيور مسافات التباعد بفطرتها، فلا يمكن أن ترى عشين متجاورين حد المكاشفة.
تلك الصور الفاسدة من الحيوات لن تمكنك من مواصلة السعي واحتمال المشاق وإقامة الحياة بجودة.
لن أتحدث عن مثل تلك الغيرة بين الأزواج لكني أتحدث عن من يسقط أنفه في بيتك قبل أن يرحل. أتحدث عن من ينسى أحد أذنيه عن عمد ليستمع إلى الجزء الذي لم يحضره من يومك، عن من يدس عينيه في عالمك ليطمئن أنه يتفوق عليك في مظاهر الحياة المادية والمعنوية. أتحدث عن نصائح ظاهرها الرحمة وباطنها الحقد والعُقَد والعار.
الشَعر الكثيف المتساقط والملتف في فرشاة المرأة يشبه نفوس كثير من البشر. لو استطعت أن تعيد فرد وعَدّ هذا الكم المهول من الشَعر المتشابك لتمكنت من فهم تلك النوعية الوضيعة من الناس وأخذ حذرك منهم، لكنه شَعر مصيره القمامة.
هؤلاء لا يصمدون بجانبك ولا يرجون لك الخير نجاحك يقتلهم لأنه يعبر عن خيبتهم وفشلهم، يستمعون إلى مصائبك ليس لمد يد العون بقدر الاطمئنان أنك لست بخير. تفوق عليهم ليكشِّروا عن أنيابهم ويتركونك مهلهل القلب مصدوم منكشف الروح.
يقول باولو كويلو: "كل شخص يعرف كيف يتوجب على الأخرين إدارة حياتهم ، لكن لا أحد يعرف عن حياته هو".
صديقي هؤلاء ليسوا كل البشر، فبعض الأحِبة تترك له مفتاح قلبك وأنت آمن، ومنهم من تذهب إليه خالي الوفاض وتعود ممتلئ الروح.
ومنهم من هم أجمل أرزاقك في الدنيا، من يُبقي عشك آمن، يحفظ سرك ويؤتمن على قلبك وروحك وتفاصيل دنيتك.
هؤلاء جاور عُشَهم للأبد وأنت مطمئن!
التعليقات