استيقظت في تلك الليلة مضطربة على صدري ثقل من نوع مختلف، تمنيت أن أبقى في الفراش، رغم أن لا شيء يُسَكِّن آلامي سوى التجاهل.
تحايلت على أطرافي ليتفقوا على ميعاد لينهضوا سويا. كيف لهذا الجسد الذي نخرته الأيام أن يطاوعني بهذه البساطة؟
ذهبت للوضوء وكان الفجر قد أذن دون أن اسمعه ... لكن نوم من يخشى الحساب كثيرا ما يوقظني.
ذهبت للوضوء وأنا أجر قدميّ واتحايل على عيني ألا ترى بصيص النور فتنبه الروح وتستيقظ.
صليت ركعتي الفجر ثم مددت جسدي في غير موضعه وكنت لا زلت ارتدي زي الصلاة، لا بأس فبرودة المكيف تزيد في الفجر.
كنت أتحدث لنفسي ... لطالما تمنيت أن ألقاك وأنا أجاهد في عبادتك … ولو لم تكن تليق بك، -لا شيء يليق بجلالك- … ولو لم تكن تليق بمقامك في قلبي … ولكني اجتهد فأَعِنّي، ثم غفوت.
قمت من نومي لأرى كم الساعة، الموبايل لا يتحرك ولا أستطيع التقاطه. ذهبت لفتح باب الغرفة فلم يتحرك الباب، لكني مررت خلاله! يا إلهي ما هذا.
ناديت على أبنائي وكانوا قد غادروا لعملهم مبكرا وكذلك زوجي.
ذهبت إلى الريسيبشن فوجدت عدد كبير من الأحِبَّة بانتظاري، أشخاص شديدي اللطف، أحباب يعلو وجوههم النور، لطالما تمنيت رؤيتهم ولو لدقائق معدودة.
سلمت على الجميع بحرارة مسافر واحتضنت من افتقدت وبكيت طويلا، ثم جلست بملابس الصلاة في صمت من استرد العافية.
قام كبيرهم شيخ وقور هادئ الملامح فأعطاني بطاقة فضية عليها اسمي، سألته ما هذه يا سيدي نظر إلي نظرة مطمئنة وأردف ستعرفين عن قريب.
سألته هل حان وقت الرحيل؟ فهؤلاء الأحباب الصامتون أعرفهم، لم يجبني لكنه أردف يسألني:
-كم شخص كرهتي؟ أجبت لا أحد.
-كم صلاة تركتي؟ الكثير ولكني اجتهد فيما بقى.
-كم شخص أحبك؟ لا أعرف لكنهم كُثُر.
-كم نفس آذيتِ؟ لا أحد عن عمد يا سيدي، فقط هَرِبت ممن آذاني!
-كم نفس عاونتها وجبرت روحها؟ أردفت فلتسأل أنت الله.
ثم أسندت رأسي للخلف كمن اثقلته سنوات العمر ...
-لو أتيت يا سيدي تنكأ جراح وارتها السنون فأنا لم أعد أحتمل، لكن لو أتيت لغير ذلك فمرحبا بك.
في تلك اللحظة غادر الأحباب اختفت صورهم من أمام عيني ولم أعد أراهم، بقي في بيتي الرجل الوقور وآخر لم أكن استطيع ان اتبين ملامحه.
جلس الإثنان يتجادلان وكنت اسمع همس حديثهم دون أن استوضحه.
قطعت عليهم الحديث، سيدي ماذا تريدان؟
-أردف، لقد اقترب موعد الرحيل وهذا الرجل هو عملك.
-لكني لا اتبين ملامحه!
-سوف تفعلين يومًا ما، لكني اليوم أحمل لك رسالة طمأنينة ممن أحبك.
-لا أفهم!
-بُلِغْنا أنك لست بخير، فبما تردين؟
-سيدي: نحن بشر تُنَازِعنا الأنا، يغلبنا الشيطان أحيانًا ليزيح عن قلوبنا رداء الطمأنينة.
نعم يا سيدي لست بخير، لكني سأكون قريبًا بإذن الله. لو سرت معي يومًا في طريقي لزهدت صحبتي، لقد رَتَقت على قلبي منذ سنوات ولن افتحه لأحد، فقد غزاني المقتحمون وكان هذا أكثر ما آذاني.
أعترف أني أحببت كل ما في دنيتي، أُربي كل ما وهبني الخالق وأُثَمِنه بحق وإن كان …
-لا تكملي … اكتنزي لآخرتك!
-ألم أفعل؟ حتمًا تعلم أني كثيرا ما سكت لأن بعض الأيام أجرها على الله.
لقد اختزنت ما لا أستطيع اليوم البوح به ولكن الله سيسمعني يومًا ما، سأحكي له عمن أقامني، عمن جبرني، عمن ظلمني، من خذلني ونكأ روحي، لدي الكثير لأقوله لله، فهيا بنا!
-ليس اليوم يا ابنتي، فأنت لست بعد في أبهى صورة لك.
-حسنًا كيف ألقى الأحبة؟
-قومي وابحثي بنفسك، فقد بقي القليل!!
-ارشدني …
قام مغادرًا، سحب البطاقة من يدي والتفت إلي ثم بهدوء لم أعرفه من قبل، قال "صمت العافية" ورحل.
صحوت من نومي وأنا بإسدال الصلاة، ضربات قلبي جاوزت المحتمل، صمت العافية؟؟؟
نعم أعرفه، اختبرته كثيرا … هو الشعور الوحيد الذي يبقيك بخير ويُعَلِمك معنى القوة ورباطة الجأش.
صمت العافية يا صديقي هو أن تنتظر من يتوجب عليه الحضور لكنه لا يأتي، أن تبتلع كلمات ليست من شيّمَك ولا تَرُد، أن تبحث في ظلمات إبتلائك عنما ينير لك الطريق فتجاوزه مجبورا، أن تعيش يومك كل يوم وكأنه آخر يوم، أن تترك بعض أوجاعك دون الحديث عنها، أن يظل ظاهرك مُنَعَم ولو أهلكتك السنون، أن تؤمن أن آلامك هي كنزك الآمن ليُسر الآخرة، وأن تعفو عند المقدرة وهذا أشق على الروح من كل ما سبق.
إن المرور يا صديقي في الدنيا كالبرق، لن تتبينه. عسى اليوم أن ندرك أن بعض عمليات تجميل الروح ضرورية، أن بعض الصمت خير لك من الكثير من الكلام، وأن تؤمن أن أعظم أجرك تكتسبه عن آلمك التي لم تلهج يومًا لرد اعتبارك فيها أو دفعها عن نفسك … سيفعل الله ذات يوم.
اصمت من الآن كثيرًا فغدًا سيتحدث عنك عملك!
التعليقات