في قطار العودة المتجه إلى الإسكندرية هذا الأسبوع تطلعت إلى رحلة مريحة بعد أسبوع شاق حافل بالانشغالات.
في عربة ١ وعلى كرسي ٢ فوجئت أني سأجلس في آخر القطار على كرسي بلا نافذة من اليمين أو الشمال.
أنا شخص لدي فوبيا شديدة عند تواجدي داخل محطة القطار، تعاملت معها على مدار أعوام طويلة حتى قاربنا أن نكون أصدقاء.
بدأت الفوبيا تطاردني بعنف، ضيق تنفس، عرق، انقباض الصدر ودوار.
بجانبي أسرة كبيرة طوال الطريق يتناوبون المقاعد ويغيرونها ويأكلون وجبات الغذاء بروائح مختلفة ويتحدثون بصوت مرتفع. ما زاد الوضع صعوبة انخفاض برودة المكيف في هذا الركن بشدة.
وضعت السماعات في أذني لانعزِل وانشغل بنفسي قبل أن ارتكب جناية يحاسب عليها القانون.
أسندت رأسي للخلف، واضعة قدمي الشمال على اليمين، ثم أسندت مرفقي على يد الكرسي وأخذت نفس عميق احتجته بشدة.
وضعت إصبعًا تحت ذقني والسبابة على خدي، وبقيّ البقية الباقية من جسدي متكتل مترابط مثل حزمة الجرجير يقاوم اهتزاز القطار العنيف، فقد كنت في طرف القطار الخلفي المتصل بعربة الدفع.
أي درجة اولى هذه في القطار التي تجعلك مثل أنبوبة اختبار موضوعة في جهاز الطرد المركزي. هذا الركن البائس من العربة لا يجب أن يجلس فيه إنسان، هو يصلح فقط لصناعة الجبن القريش.
جلست استرق النظر من الشباك الذي أمامي.
القطار يطوي الأرض كما يطوي الزمان أعمارنا فتصبح خلفنا.
المذهل أنه كلما اقتربت الأشياء تشعر أن سرعة الطريق تتضاعف.
لا يزال صدري يؤلمني ونفسي ضيق جدا ورأسي يدور وأقاوم القيء بشدة.
وصلنا لمحطة طنطا وأنا لا زلت أكتب المقال ممسكة الموبايل بكلتا يديَّ كمن يتعلق بحبل كي لا يسقط من فوق جبل.
هذا الوضع البائس أيقظ آلام الرقبة فهاجم التنميل كلتا يداي وتداعى باقي عمودي الفقري معترضا هو الآخر على وضع لا يليق بنا بتاتا.
انتفضت من مكاني، فلابد أن أفعل شيئا لن أصل للأسكندرية حية في هذا الوضع البائس.
فور وقوفي فوجئت أن هنالك بضع مقاعد خالية في منتصف العربة، وأن أفراد الأسرة الكريمة قد نام معظمهم.
عندما تكون في وضع لَعين يجب عليك أن تتحرك لتغييره. جلست في منتصف العربة، قلت الاهتزازات وبدأت أشعر بالهواء البارد للمكيف يتخلل رئتي.
لست اليوم أكتب عن معاناتي مع القطار والفوبيا وأوجاع ظهري، لكني أتحدث عن تحمل ما يؤلمك، عن معاناتك وقدرتك على الصبر على ما تكابد من عنت في رحلتك، أتحدث عن كافة الإجراءات التي تتخذها لدفع الضُّر عن نفسك عندما تعجز عن التصبر.
عندما عجزت عن التنفس أخذت حقائبي وكنت على استعداد أن أكمل الرحلة واقفة، لكني فوجئت بأن بعض المقاعد لا تزال خالية.
في دنيتنا أيضا يا صديقي، لا تزال بعض المقاعد المريحة خالية!
أحد أهم أسباب الإنارة في حياتك أن تلبي احتياجاتك النفسية، أن تتوقف عن سحق روحك في أماكن لا تليق بها، وأن تقتنع بأن المشقة التي تختارها قد تكون خير لك من الراحة التي تفرض عليك.
بعض مقاعد الدرجة الأولى مخادعة، ظاهرها الراحة وباطنها العذاب.
رغم أنني لم أغير القطار أو حتى العربة لكن تغيير المقعد كان كافيًا لإنهاء الكثير من معاناتي.
من منا لم يجلس يومًا على مقعد لا يناسبه؟ متى بدأت تغيير مقعدك؟ هل وضعت نفسك يومًا في أول أولوياتك؟ هل كانت اختياراتك تصب في شعورك بالراحة وتخدم بحق وجودك المريح في دنيتك؟ ومتى قررت يا صديقي أن تغادر لترك ودًا ظاهريًا لا يليق بقلبك؟!
لم يناسبني المقعد لكنه سيظل موجود وقد يجلس عليه من يتحملونه.
أما أنا وقلبي فأفضل لنا اليوم أن نرتاح من عناء رحلة شقت علينا بحق.
حياتنا يا صديقي أقصر من أن نفقدها في أماكن لا تناسبنا ولا تمدنا بيد العون لسهولة إكمال الطريق.
إن يد الإغاثة التي تغير بها وضعًا لا يليق بك هي نَجْدَة قلبك، السند المعين وعضد مُنَاصِر لروحك المختنقة.
تغيير مكاني لبضع مقاعد كان كافيا أن يعيد لرئتي الحياة، وحريّا بك أن تفعل، والفعل حرى في المعجم من الأفعال التي تدل على تمني وطلب وقوع الخير.
عندما يساء تقدير صحبتك لأيام أو أشهر أو سنوات غيّر مقعدك!
الصبر له منزلة عظيمة عند الله أما الاصطبار فيفوق الصبر منزلة، وهو يعبر عن كل شيء قدمته بحب وود لتتجاوز عمن أساء إليك حتى غدوت بحق لا تقدر.
من الغباء أن نتصور أننا مجبورين على التحمل طوال الوقت وعلى مدار العمر؛ أنت لست حق مكتسب لأحد!
صديقي ... إذا لم يلائمك المكان لا تتردد أبدا أن ترحل.
لن تستطيع أن تستقي الود من شخص لم يحبك، يكفيك أن ترحل تاركًا ورائك الفراغ المستحق عن كل ما أوجعك يومًا.
التعليقات