أتلقى يوميا العديد من المكالمات من الأصدقاء نتبادل التحيات والحكايات. تتعدد تجاربنا والمعاناة واحدة. أنهي الاتصال وسؤال واحد يسيطر على تفكيري: لماذا أصبحت علاقاتنا الاجتماعية مرهقة؟ لماذا لم تعد حياتنا تسير في هدوء ووضوح؟! لم تكن الحياة يوما بلا أشواك ولن تكون أبدا لكن ما نراه في حياتنا وتعاملاتنا اليومية مع غيرنا من البشر أصبح يرهقنا صباحنا ويؤرقنا ليلا.
تمر السنوات ويحدث ما يكشف النفوس على حقيقتها دون مواربة. من ظنه الناس تقيا تكشف سوأته ومن حسبه أهله موضع ثقة يفاجئهم بخيانة لا تغتفر. يخذل الصديق صديقه بدلا من نصرته. أصبح العتاب واللوم لغة العصر بلا هوادة. قليل هم من يلتمسون الأعذار لغيرهم وكثير هم من يطالبون دوما بالتبرير والإعتذار. قست القلوب وتحجرت المشاعر. طغت الأنانية على التفكير في معظم الأمور. لم يعد الإنسان يتصرف بتلقائية وعفوية كما كان الحال في السابق. عليه أن يفكر مرارا وتكرارا في كل فعل يقوم به بل ويتعدى الأمر في التفكير في العواقب والاستعداد بكل التوقعات لردود الأفعال الإيجابية منها والسلبية.
هل السبب وسائل التواصل الاجتماعي؟ ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في تغذية مفهوم التباهي وتقلصت القناعة في ركن قصي. تصدرت صور المطاعم وأماكن اللهو الفاخرة صفحات أصحابها. وظهر نوع جديد من العتاب لمن لا يعلق أو يتفاعل مع ما يعرض وكأن الحياة بمشكلاتها وهمومها ليست كافية لنزيد لها هموما أخرى وهي تفاعلات الفيسبوك وما على شاكلته. شكلت وسائل التواصل العقول بمفاهيم أنانية أحادية التفكير في كثير من الأحيان ففقد الناس التعاطف حيال مشاكل بعضهم البعض فبدلا من الحزن في المصائب واعتزال الناس انشغلوا بالتقاط صور حوادث السيارات ليحصلوا على عدد لا بأس به من الوجوه الحزينة! نصب الناس بعضهم قضاة يصدرون الأحكام بجدوى علاقاتهم الإنسانية.
وعلى صعيد آخر زاد الوعي بالحقوق والواجبات بفضل المواد المرئية التعليمية المعروضة بسهولة وفي متناول الجميع. لم يعد من المستحيل الوصول للأطباء النفسيين أو علماء التربية أو الاجتماع أو غيرهم بل أصبحوا قاب قوسين من المستمع والمشاهد بكبسة زر. ساهموا في تشكيل الوعي بالظلم والاضطهاد وعززوا من مفاهيم إيجابية كثيرة. تغير الناس وتغيرت ردود أفعالهم.
هل السبب وتيرة الحياة السريعة التي ضغطتها الماديات؟ لا يمكننا أن نغفل دور وتيرة الحياة السريعة في تعقيد الأدوار الاجتماعية الطبيعية المعتادة. أصبح الوقت مضغوطا وحرية التعامل معه على المحك. تقلصت الزيارات العائلية والعلاقات الاجتماعية. أصبح الأصدقاء في معزل عن بعضهم البعض وتحكمت المصالح في وضع أسس جديدة للعلاقات. قل التزاور والاحتكاك الفعلي بين البشر واستعاضوا عن اللقاء بلقاءات عبر الأثير عن طريق التطبيقات الإلكترونية أو حتى تبادل الرسائل السريعة على الواتساب بكلمة أو تعبير. تحول أصدقاء الأمس لأصدقاء مراسلة تمر عليهم الأيام بل والسنوات ولا يتقابلون وجها لوجه.
ومن بين من طحنتهم الحياة بين رحاها هناك بشر أصليون يأبون إلا الإخلاص والمثابرة على حفظ العلاقات الإنسانية. يبذلون كل جهدهم لمساندة الغير ومد يد العون الفعلي لهم في أزماتهم. يقدرون انشغال أحبابهم ويصبرون على غيابهم. يعطون بلا مقابل ويستثمرون كل غالٍ ونفيس في علاقة بشرية يفيقون بين عشية وضحاها على طريق وعر عليهم تخطيه. لم تعد العلاقة مريحة ولا بسيطة ولا باقية. طغت الأنا على كل شيء. المصلحة لغة العصر. العطاء لابد وأن يكون له مقابل وإلا كان هدرا للوقت والجهد. الحضور الفعلي في الأحزان والأفراح أصبح عادة قديمة استعاض الناس عنها بالرسائل الإلكترونية. فعل الخير وما يتكبده صاحبه من تضحيات وجهد أصبح سذاجة غير مطلوبة. تغيرت معاني الصداقة ومستلزماتها رغما عن الجميع. أصبح الوقت عزيزا.
غزت العقول مفاهيم جديدة عن كل شيء فتغيرت التوقعات وضاقت النفوس. لم تعد لمعاني الصبر والتضحية والترابط الأسري وفضائل الصداقة والتزاماتها قوة تحفظ صمودها أمام تحديات العصر. زاد الوعي وانتشرت التوعية بالحقوق والواجبات فانقشعت غمم كثيرة كانت تحجب الرؤية وتفرض الاستكانة والضعف. استفاق من كان دوما نائما وصرخ من كان مكتوما. وما بين المكاسب والخسائر وقف البعض حائرا في الحاضر متحسرا على الماضي لا يعلم أي الوضعين أفضل ولا أي السبيلين يختار.
التعليقات