هناك ثلاثة أسئلة هامة وجهها تولستوى عملاق الأدب الروسى لنفسه ذات يوم، ثم أجاب عنها بعد ساعات من التأمل واسترجاع كم لا بأس به من الخبرات المتراكمة التى شكلت وجدانه، بل وكيانه بالكامل عبر الزمن، وقد جاءت الأسئلة على النحو الآتى:
■ ما هى أهم لحظة فى حياتك؟
■ وما هو أهم عمل من وجهة نظرك؟
■ ومن هو أهم شخص يتبادر إلى ذهنك؟
والغريب أنه أجاب عن الأسئلة الثلاثة بكلمة واحدة وهى (الآن)، أى أن أهم لحظة فى حياتك هى اللحظة التى تعيشها الآن، وأهم عمل من وجهة نظرك، لا بد أن يكون ما تقوم به الآن، وأهم شخص يتبادر إلى ذهنك، من المنطقى الذى يجالسك الآن. وقد شاركه معنى الآنية، الأديب الروسى دوستويفسكى، وبالمناسبة (الآنية) مصطلح فلسفى قديم معناه تَحقق الوجود العينى أو قوة الوجود.
الآنية تنسب إلى الآن والقوة فى الوجود تتجلى فى كلمة (هُنا). وقد ذكرهما دوستويفسكى بعد صدور العفو عنه من عقوبة الإعدام حين كتب رسالة إلى أخيه قال فيها «كلما نظرت إلى الماضى، إلى كل السنوات العتيقة التى أضعتها عبثاً وخطأ، ينزف قلبى ألماً، لأن الحاضر هبة وكل دقيقة فيه يمكن أن تكون حياة أبدية من الفرص والاحتمالات السعيدة».
وكلام الفلاسفة العظام يعنى أن إدراكنا لمنهج (هنا والآن) قد يشكل تغييراً مذهلاً فى حياتنا، لأن الماضى قد مضى بكل مَن وما فيه، والمستقبل لا يعلمه سوى خالق الكون ورب الأرباب، وهو فى أيد أمينة وعلينا أن نثق فى تدابيره وخطته الصالحة لنا، وهو جل جلاله الذى أعطانا (هنا والآن) الحاضر بكل امتيازاته، لنتمتع به ونستثمره ونحقق فيه ما نحلم ونتمنى، (هنا والآن) مفاتيح ذهبية لبلوغ المراد والوصول إلى التميز والتفرد والنجاح.
هنا هو مكاننا المفضل، والآن هو وقتنا المقدس، المساحة لنا واللحظة ملكنا وهى ملونة بريشة مشاعرنا. انظروا جميعاً إلى الخلف، إلى عشر سنوات ماضية فى مثل هذا اليوم 30 يونيو، كيف كنا، وكيف أصبحنا، وكم الصعوبات التى تحملناها بصبر وتجاوزناها بصلابة، ولم تدفعنا يوماً إلى التراجع عن كل ما آمنا به لحياة كريمة.
هنا والآن نستكمل الطريق التى بدأناها، هنا والآن نبدأ مرحلة جديدة تحمل سمات التطلع إلى الأعلى، إلى الأفضل، إلى عودة الروح، إلى عافية الجسد، إلى مصر التى كانت أسطورة الشرق فى الآداب والبحوث والعلوم والفنون، فى البناء والتعمير، فى الوفرة والجود، ولا أقول إن التحديات قد انتهت أو إن التعقيدات قد تلاشت، لأن الحياة ذات نفسها سباق تنافسى لا يهدأ ولا يرسو.
ما أقوله هو أن الثقة فى مقدارنا والإيمان بمقدراتنا، كفيلان أن يغيرا أقدارنا، لا بد أن نعيد تقييم حاضرنا ونعطى له فرصة التواجد والحضور والتعبير عن كينونته، ومن يدرى قد يفوق توقعاتنا أكثر جداً جداً مما نطلب، لا بد أن نعيد بث الإرادة فى أنفسنا، تلك الغدة التى تفرز المستحيلات، لا بد أن نعيد إحياء قامة القيم والمبادئ والأصول والأخلاقيات، تلك الأعراف التى نشأنا عليها وصنعتنا لنسير فى خط مستقيم لا يحيد عن الشرف والنزاهة.
فالحياة (زمن ومكان) أغلى من أن تنقضى بلا شغف، الحياة (هنا والآن) أعظم من أن تستنزف فى صراعات داخلية أو خارجية تؤدى إلى خسائر لا تعوض. الحياة (هنا والآن) نعمة ربانية، الامتنان لها والمحافظة عليها، واجب علينا.
التعليقات