في طريق عودتي إلى الإسكندرية بالقطار مع ابنتي تصادف أن أحد الأشخاص كان يجلس أمامي بحوالي ثلاث أو أربع صفوف، كان يتحدث إلى شخص يدعى الحاج محمود بصوتٍ عالٍ جدًا.
كل من كان يجلس في القطار عَلِم أن الحاج محمود عاد لتوه من العُمْرَة، ولولا الملامة كنا جميعا أخذنا المحمول منه للتهنئة بسلامة الوصول.
رغم إنني كنت أستمع إلى الموسيقى الهادئة ولكن أنباء الحاج محمود اخترقت أذني رغم أنفي، كان صوت الرجل صدّاح وضّاح مثل صوت نداء بائع الروبابيكيا في الميكروفون في حي هاديء.
ثم قام الرجل باستقبال مكالمة أخرى، ما لفت نظري أنه كان يقسم بالله لمن يتحدث أنه ما زال في أسوان، رغم أننا كنا قد تحركنا من محطة رمسيس بالقاهرة إلى مدينة الإسكندرية الحبيبة.
هالني البساطة والأريحية التي تناول بها الرجل كذبته بصوت عال، حتى أن كل من حولي جلس يضحك وينظر بعضنا للبعض.
أستطيع كشخص أن أتجاوز عن الكثير من الحماقات التي تصادفني في أي إنسان أعرفه، إلا أن يكون كاذبًا.
فعن صفوان بن سليم أنه قال: قيل لرسول الله: أيكون المؤمن جبانًا؟ فقال: «نَعَمْ». فقيل له: أيكون المؤمن بخيلًا؟ فقال: «نَعَمْ». فقيل له: أيكون المؤمن كذابًا؟ فقال: «لَا». رواه الإمام مالك في «الموطَّأ»، وهو حديث حسن.
أرى الكذب لَبِنة سوداء تدخل على القلب فيصيبه الظلام، ثم بمرور الأيام وتكرار الكذب يعتم القلب وتتغير السريرة.
الكذَّاب شخص عارَض دنيته لم يكن ممتنا للتجارب التي مر بها، قصير النظر، ضيق الأفق، يعيش متألمًا فارغًا لا تهزه المشاعر النبيلة، حقود حسود متمرد على عطاياه، بخيل الروح ضال الوجهة وعالق في مصائبه؛ تَكَبَّرَ على نِعَمه فأصبح لا يكد يراها.
العين التي تعينك على الحق والصواب هي "عين النجاة". عندما ترفعك الحياة أو تسقطك لا حاجة لك إلى الكذب، فحتى وأنت تسقط أو تتعثر تحصد العطايا وتتعلم حسن التقدير وتدبير أمورك.
في الطفولة والصِبا يحتمل أن تكذب، في شبابك تتعلم الصدق وتكافح أن تجعله دستورك، أما وقت أن تُجاوِر الأربعين يجب أن تكون قد أدركت كيف تتحرى الصدق.
لا حاجة للكذب، لا حاجة للكذب مطلقًا ولو كنت ستموت!!
أدركت في مرحلة ماضية من عمري أن كل ما يخبئه القلب يعلنه الوجه، وأن صفاتي الجيدة تعنيني أنا في المقام الأول، وأن الخير كل الخير أن أموت وأنا أجتهد في تحري الصواب على أن ألقى الله وبه غضب عليّ.
لا شيء يستحق أن ينادوا على فلان بذي الناصية الكاذبة الخاطئة.
الأمر بالنسبة لي ليس في فكرة تجنب النار ودخول الجنة وهذا جيد وعلى الفطرة القويمة، إنما ما أعنيه هو نظرة الإنسان السَوِيّة لنفسه، مذاق الصدق حلاوة وجودة الأخلاق ثم نبل ونظافة القلب، كلها يا صديقي مرآتك المشرفة في الدنيا والسبيل لمرورك مرفوع الرأس بين الناس طوال عمرك.
هناك شيئان لن يتغيرا في دنيتنا الأول هو اتجاه القبلة، والثاني وجهة قلبك، فلا تضع رأسك على الأرض في اتجاه القِبلة وقلبك في الإتجاه الآخر؛ ستهلك مذمومًا.
هناك فارق عظيم بين أن تكون تصرفاتك سيئة أو تكون أنت شخص سييء، ففي تجنب سخط الله رغد الحياة.
كل ما فقدته في دنيتك كان مقدرًا لك، لم يكن الكذب يومًا ينجيك، لكن الله مسنا برحمته فأحيا بداخلنا وهجًا ينير لنا الطريق إذا اشتدت علينا ظلمة الحياة، كذلك يفعل بالمؤمنين.
لو صادفت شجرة عالية نبتت بين قضبان السكة الحديدية ستدرك حتمًا ألا قطار يمر من هناك. كذلك الصدق، هو الجلاية التي تمهد لك الطريق دومًا.
الكذب ببساطة هو وضع الكلمات في غير موضعها للوصول لغاية دنيئة. الكذب حذاء حقير يلبس رأس صاحبه.
أعرف أُناس يكذبون كما يتنفسون، أكره معرفتهم ومجالستهم والمرور بجانب هوائهم، كان من الأفضل أن تخلو دنيتنا من أمثالهم، على كل حال نحن نؤجر عن مجاورتهم.
كلاليب النار تسحب قدمك للكذب في الدنيا، وعندما تمر على الصراط تكون مستحق للعذاب.
كلنا نعرف وجه العجوز الكاذب، وسِحنة المرأة الجوفاء، تقاطيع المدلس وقبح من يمشي بيننا بالوقيعة.
لا أحد يخدع أحد الكل يراك من الداخل مهما تجملت.
الكذب والنفاق هما وجهي العملة المزيفة التي تنفق في ملذات محرمة لتجعل رصيد الستر لديك بالسلب.
إن أحد أهم النعم التي أدعو الله ببقائها ما أحياني هو رصيدي من الستر.
هي تلك الكبسولات التي تتلقاها كل صباح على معدة فارغة من الآثام فتطيل عمرك في الخير.
يحضرني آية في سورة الليل لم أكد أتبين معناها حتى اليوم، معنى أن يغضب علينا الرحمن فيقول {فسنيسره للعُسرى}. يالهول المعنى المرعب العظيم الدقيق!
يا رب يسرنا لليسرى وأدم علينا سترك في الحياة الدنيا والآخرة فلا نضل ولا نشقى ونحن في رعايتك، نرجو رحمتك ونتدثر برعايتك، وهيئنا لنتذوق جمال جنتك على الأرض وتلك البهية التي في السماء.
التعليقات