من أجمل ما كان يُقَص علينا في طفولتنا هي "الحدوتة".
قصة قصيرة شيقة بها من الخيال المحبب ما يدفعك إلى تصديقها والتعلق بها، فتبقى محفورة في ذاكرتك للأبد.
كل منا له حدوتة خاصة به قد يقصها أو يدفنها في روحه؛ لكنها بلا شك تصنع منه شخص سويّ نفسيًا أو مُهلل روحيًا.
هناك من يفخر بحكاياته، وهناك من يخجل من ذاته والجميع لديه ما يقال لكن القليل فقط هو ما يستحق أن يبقى في الذاكرة.
كلمات كثيرة تستحق الخلود وغيرها لا يُنتظر لها سوى أن تُقْبَر وترضى ديدان الأرض بالقضاء عليها.
كلما أغمضت عيني على ذكرياتي هالني كغيري كيف أن سنوات من الموت صنعت الكثير من الرخاء، صعوبات وظلمات كان أولى بالحياة أن تنتهي عندها.
كل ما تغشاه وتخشاه يزورك ليلا وكأن تلك الحكايات تأبى إلا أن تهمس بقبحها مخافة الزوال.
ثم أتساءل هل كانت تلك الحواديت معول الهدم أم البناء؟ هل لو سارت كل الحكايات ثرية بهية لكنت أسعد؟ وهل أُفَضِل في قرارة نفسي أن لو كانت الحياة أكثر يسر وحنانًا على قلبي؟
خرجت تلك الإجابة بعد سنوات شاقة مظلمة ويسيرة، بعد سنوات أقامت قلاع الفرح في قلبي ثم هدمتها، لكنها لم تهزمني بعد؛ ولن تفعل!
في كل موقف يمر عليك ستجد طريقين لا ثالث لهما، إما أن ترى أو تصاب بالعمى، وكلاهما مر.
نعم كلاهما مر، فأحيانا بعض الجهل نعمة.
إذا رأيت لن يعجبك المشهد وإذا تعاميت تصير ساذج أَحْمَق.
يقال بالعامية المصرية "فلان على نياته". يعني للأسف أن هذا الشخص بالتأكيد لا يستخدم عقله.
عندما أنظر للناس ككاتبة أراهم مجموعة من الروايات، بعضها مُلْهِم وبعضها مُوحِش، والسواد الأعظم منها لا حياة فيها.
وهؤلاء هم حدوتة اليوم.
يتحدث كل الأدباء والعلماء عن أهمية الوقت، وكيف أنه ثروتك وغناك الحقيقي. أنت عدد الدقائق والساعات التي أهملتها، أنت عدد الأيام التي تركتها تمر من عمرك، وأنت كل الوقت الذي مر ولم تشعر به.
لذا فأنت قد تصبح يومًا ما غير موجود.
هناك أُناس عاشوا وماتوا ولم نسمع بهم لكنهم أصابوا كبد حقيقة غائبة عن إدراك الكثير؛ هؤلاء تركوا من خلفهم ما يستحق أن ينادوا به في الحياة الآخرة.
لكي يذكرك أهل الأرض والسماء لا تحتاج أن تكون نبيّ، بل أن تكون إنسان. باغت الدنيا بقدوم شخص جميل.
كلنا نعلم أن من أهل الأرض من يدخل الجنة من باب الصائمين أو من باب الصابرين أو باب المتصدقين.
سألت نفسي كثيرًا من أي باب من الثمانية أحب الدخول، في صغري كنت أطمع فيهم جميعًا، أما اليوم فإني أفضل باب المجاهدين.
كل من جاهد واجتهد، أصاب أو أخطأ، وصل أو تعثر، كل من كانت حكايته ملهمة وثرية، كل كان سبب في أمن القلوب، كل من اهتم ولم يتراخى، كل من أدرك أنوظيفة القلوب هي بث الأمان، وكل من تدبر العطاء، كل من كانت نيته طيبة، وكل استطاع أن يصنع من عمره شيء ما مختلف، هؤلاء جميعًا من وجهة نظري يستحقون دخول الجنة من باب المجاهدين.
الحدوتة الحلوة ليست التي نهايتها سعيدة، بل تلك التي أحداثها سعيدة رغم كل العناء والإرهاق الذي يطال حياتك.
العبِرة بالوسيلة التي تقود بها نفسك. هناك من يجلس في طائرة على الأرض منتظر بناء أرض المطار، وهناك من ينتظر في سفينة وسط الرمال منتظرًا وصول الماء، وهناك من يركب القطار آملا في بناء القضبان.
صديقي العزيز كن أنت من يصنع القضبان، كن ممن يمهد الوديان، وكن أنت نفسك الربان.
حلمك هو اللحظة التي تقرر فيها ألا تستيقظ حتى ترى نهاية وجهتك. لا تفسر واقعك وفقًا لما تريد بل حسب ما أنت عليه.
لا تنظر لنفسك في ظهر المرآة خوفًا من واقعك؛ تجمّل حتى تصير جميلا بالفعل.
تعلم من ماضيك ولا تنظر إلى مستقبلك بقلق، كل ما عليك هو أن تغتنم حاضرك الآن حتى لا يأتي يوم يصير ما يؤرقك اليوم أصبح أجمل ذكرياتك.
قرارات الله في حياتنا وإن أوجعتنا تعمل دومًا لصالحنا! نعم، فلا أحد يُبْتَلى إلا ليتعلم أو يؤجر أو يُصبح عبرة لمن لا يرضى.
أتمنى وأحب أن أتصور نفسي سيدة عجوز لي من الأحفاد الكثير، يجلسون في حضني لأحكي لهم عن جمال الحواديت، سأقص عليهم كيف تحولت من الضعف إلى القوة، كيف واجهت عقباتِ بشجاعة، وكيف كانت تحديات العمر والصحة والفقد السبب الأوحد في اكتسابي الحياة العادلة.
سأحكي عن تجاربي السيئة ليتعلموا وعن تجاربي الجيدة لتكون حافز يُنْقَش داخل قلوبهم الصغيرة.
سأعلمهم أن خيوط الحرير القيّم تنسجه فراشة رقيقة صابرة تعمل كل يوم بدأب. أحب أن أزخرف في عقولهم الصغيرة أن الحياة تأخذك إلى حيث تريد طالما أصررت على وجهتك الصحيحة وعملت كل يوم على ذلك بكد وحب.
التعليقات