(ماسبيرو) هذا المبنى الراسخ فى وسط المدينة والمطل بكل شموخ على نيل القاهرة والذى صار من معالم الوطن، لا أتصور أنه سيصبح أثرًا بعد عين.. هل نستيقظ ذات يوم ونجده قد صار أنقاضا، وتلمح ميلاد مشروع رأسماله عدة مليارات من الدولارات لناطحة سحاب تُخرج لسانها لنا؟!.
هذا الأمر مستبعد تماما، الدولة تمنع هدم أى مبنى مرّ عليه أكثر من 100 عام، وهذا القانون قطعًا لا ينطبق نظريًا على ماسبيرو، الذى لا يتجاوز عمره 62 عاما، إلا أنه يتكئ فى بقائه على قانون أصدق وأعمق، ارتباطه بالوجدان الجمعى، المبنى جزء من الذاكرة الجماعية للمصريين.
تأخرنا قرابة عشر سنوات على دخول عصر التليفزيون.. الملك فاروق فى عام 51 اتفق مع شركة فرنسية على إجراء التجربة لتوثيق حفل زفافه من الملكة ناريمان، لينطلق بعدها بعام على أكثر تقدير!.
فاروق امتلك نظرة للمستقبل، حيث صار التليفزيون فى الأربعينيات راسخًا فى أوروبا وأمريكا، ولم يرضَ الملك عندما حلت الخمسينيات أن تتأخر مصر أكثر من ذلك عن الدخول إلى عصر الصورة المرئية.
قطعًا مع ثورة 23 يوليو تغيرت الأولويات، رأى عبدالناصر أن البث التليفزيونى لا يمثل ضرورة ملحة، حتى جاء 21 يوليو عام 60 لينطلق البث فى نفس اللحظة من القاهرة ودمشق (مواكبًا الوحدة بين مصر وسوريا).. وأتصورها مقصودة، اختيار التوقيت قبل ثورة يوليو بيومين، عبد الناصر لا يريد أن يرتبط 23 سوى بذكرى الثورة.
ماسبيرو تمدد عن البدايات كمبنى، وتعددت الاستوديوهات وصار كل منها يحمل عبق الزمن، كل ركن فى هذا المبنى يعيش فى الذاكرة، حيث حظى فى البداية بصفتين (العربى) و(العملاق).. كان للفنان والمثقف العربى مساحته على الشاشة المصرية، كما أنه كان دائمًا هو العنوان الأسبق عربيًا فى الدراما والثقافة والترفيه، واستحق لقب (العملاق).
لم يؤثر تعدد الفضائيات فى الداخل والخارج على مكانته، حيث تقرر منذ نهاية التسعينيات زيادة مساحة الحريات فى مناقشة القضايا داخل ماسبيرو.. كان الجميع يتسابقون على عرض أعمالهم على شاشته.. الهامش الذى وصل إليه برنامج (البيت بيتك) الذى ترأس تحريره ومنحه الروح المتمردة الكاتب الصحفى والإعلامى الكبير «محمد هانى» لعب دورًا إيجابيًّا فى بقاء (ماسبيرو) فى الصدارة.
وكان عرض البرنامج أو المسلسل على شاشته فى رمضان هو الهدف الأسمى للجميع، واضطر وزير الإعلام الأسبق أنس الفقى لتشكيل لجنة برئاسة الدكتور فوزى فهمى لاختيار الأفضل للعرض الرمضانى، وكثيرًا ما كانت تمارس ضغوطًا أدبية على الوزير لتغيير النتائج، وأشهد من خلال عضويتى فى تلك اللجان بأن أقصى ما كان يفعله هو أن يطلب من اللجنة المشاهدة مجددا، إلا أنه فى النهاية يلتزم بقرارها.
مع 25 يناير، بدأنا نستشعر أن المصداقية باتت قليلة، والمشاهد بدأ يبحث بـ(الريموت كونترول) عن مصادر أخرى، ولم يعد صناع الدراما أو المنوعات لديهم شغف بالعرض على شاشته، لأسباب قطعًا خارجة عن مسؤولية أبناء ماسبيرو، وأيضا متجاوزة قدرتهم على الحل، هذا هو الخطر الحقيقى على (ماسبيرو) المعنى.. أما المبنى فلا خوف عليه.
ماسبيرو الآن يحتفظ بمظاهر قوته فى أرشيف (ماسبيرو زمان)، أقصد ما تبقى من تلك الكنوز قبل أن تغتالها يد الفساد تارة، ويد الإهمال تارة.. هذا القليل يحتل الآن على (السوشيال ميديا) مقدمة (التريند).
أتمنى أن يعود ماسبيرو للصدارة فهو عنوان مصر. يجب أن يتحلى أولًا أبناء ماسبيرو بالمرونة فى تقبل النقد، كل مصرى له نصيب فى (ماسبيرو) المبنى والمعنى!!.
التعليقات