التعلق بمن أحببت يمنحك الكثير من الحياة. أحيانًا تتوقف بداخلك الكلمات، تعجز عن التحدث إلى نفسك وقد تفقد شغف الحياة بداخلك.
من أكثر حقائق دنيانا إيلامًا هو الفقد. لو عاش أحبابنا آلاف السنوات إلى جانبا سنفقِدهم ونفتقدهم في النهاية.
لا حيلة لنا سوى التسليم الكامل لأقدارنا القاسية.
ولعل هناك جميل دائما يجاور الفقد.. إنه السيرة الطيبة وحسن المرور في الدنيا.
من أكثر الأشياء التي تثقل روحي أن أتحدث عمن غاب بجسده عن دنيتي.
لن أرثي أبي أبدًا، فلا يستحق ذلك الخالد في نفسي سوى الفخر والإعتزاز.
لقد كان أبي…
كان طبيبًا لامعًا للأمراض النفسية وأستاذًا جامعيًا مرموقًا في كلية الطب، لكن الأهم من كل ما سبق أنه كان إنسان.
ترك في قلبي إرث من العطاء شاهدته بنفسي من خلال حياته. ترك لي كل مكتسبات الفخر سيرة من المسك ستظل رائحتها تطل على عمري ما أحياني الله.
رأيت أبي كيف يتعامل مع مرضاه، فقد كنت أستغل أجازة الصيف وأعمل معه في عيادته. رأيت الحياة تعود بداخل أُناس فقدوا الشغف للتنفس. رأيت أشخاص كسيحي الروح استطاعوا أن يغادروا قادرين على إقامة الحياة. رأيت مئات المرضى يتألمون في صمت وكان أبي لهم طوق النجاة. رأيت حيوات كثيرة دبت داخل أروقة عيادته.
رأيته إنسان يتواضع مع المحتاجين ولم يكسر يومًا خاطر أحد.
كان ذلك الطبيب "الحكيم" الذي يوصل مرضاه إلى باب العيادة الخارجي بلا تكلف وبمحبة.
لم أفقد أبي فهو يسكن قلبي، ولكني أفتقده.
أعلم أني في غاية الأنانية، لأنه عاش ما يقرب من ٢٥ عام في إبتلاء شديد. وقت أن تجاوز الستون عامًا أصابه المرض العضال، لا يتحرك لا يتكلم لا يستطيع أن يجلس ولا يخرج من حجرته، غير قادر على التواصل معنا سوى بكلمة واحدة أو إثنين، ولا يرى من الدنيا سوى سقف غرفته.
فقد في خلال ربع قرن من الزمان كل معطيات الحياة بداخله ومن حوله، حتى إنه كان بالكاد يرى، وماذا كانت تفيده عينيه؟ وفي أي شئ كان سيستخدمها؟ وقد تسيبس جسده من كل حركة سوى من حركة صدره ومقلتيه.
هذا الرجل الصابر لم يتأوه يومًا، لم يعترض، لم يقنت ولم أرى في عينيه سوى الصبر الجميل.
لقد اعتدت نصف عمري أن أتألم عليه في صمت وصبر. الناس لا يرون منك سوى ما تحب أن تظهره أنت لهم؛ لا أحد يعرف ما بداخلك سوى الله ونفسك.
لقد كان حبي لهذا الرجل عظيم وتألمي عليه كان أشد وأعظم.
ولكن …
أنا لم أحزن لموته، لكني حتمًا سأفتقده.
وكما أحب أن أحيا، فلابد أن لهذه القصة وجهه مشرق. لكل شئ في النهاية خاتمة سعيدة.
الجزء المنير في كل هذا الوجع، أني رأيت أبي بدرًا منيرًا ذاهبًا للقاء ربه مبتسمًا بوجه أكثر شبابًا وبياضًا ونضارة. في هذا اليوم سعدت كثيرًا وهدأت نفسي، لأن آلامه انتهت. في يوم الجمعة الماضي أحسبه ذهب ليرى مقعده في الجنة وأتمنى أن يدخل من باب الصابرين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
ووالله إني لأرى بقلبي مقعده في الفردوس الأعلى، ولا أخشى عليه شيئًا، فهو بين يدي أرحم الراحمين.
اصطحبته في سيارة الإسعاف وأنا أدعو له ويدي فوق قلبه، كنت كأني في عالم آخر، أطل من جانبه على آخر لحظات الحياة.
رأيت في جنازته كل من أٌحب، وكل من أَحَب هو، رأيت من الطيبين الذين لا يعرفونه جاءوا ليصلوا عليه، رأيت أصدقاء بالكاد أعرفهم جاءوا لوداعه. كما رأيت من الأهل والأحباب وأصحاب العمر الجميل وفِرَق من الشباب والبنات أبنائي ممن صَلَب ظهري وكان حاضرًا في إقامتي.
لم أفتقد في هذا اليوم أحد، لقد تدثرت بأحبابي، عشرات ومئات الأكتاف كانت حاضرة لمساندتي، حتى أن أستاذي المشرف على رسالة الدكتوراة الخاصة بي كان من أمّ الجميع في الدعاء له بعد الدفن بلا سابق ترتيب.
يا له من يوم هادىء!!
دائمًا المحنة تغلفها الرحمة، ودائمًا الحِمل الثقيل يخِف إذا ما تنافس على حمله ذوي الأيادي البيضاء.
ليس كل الوداع ألم؛ هناك وداع مبهج، وقد كان ذاك اليوم أشبه بحفل وداع.
سأظل أحيا بقلب أبي، وانتهج نهجه في الدنيا. لم يعلمني الرحمة والمحبة والحنان قدر ما رأيتها في سلوكه.
لكل منا كبواته وأخطائه، ولكني أدعو الله بإسمه الأعظم له بالرحمة والعفو، وأن التقيه في الفردوس الأعلى من الجنة لنحيا سويًا هناك بلا ألم ولا نَصَب.
التعليقات