(لا سياسة فى الثقافة ولا ثقافة فى السياسة)، مقولة أثبتت الأيام أنها خاطئة تماما، خطوط التماس المشتركة باتت حميمة وتعدت مرحلة السخونة إلى توجيه ضربات موجعة، وبات كما يبدو من المستحيل الفصل بينهما، مع الأيام قد يتضاءل التوتر قليلا، على خطى التماس، إلا أنه سرعان ما يعود وربما أكثر مباشرة وأشد ضراوة وتتأجج المعركة بين السياسة والثقافة.
الرئيس الأوكرانى زيلينسكى ممثل كوميدى يتمتع بذكاء وكاريزما، وقدرة على اجتذاب الجمهور، لديه فيض من (الذكاء العاطفى)، يسخر عقله لخدمة قلبه، محققا الأهداف التى يريدها بتلك المعادلة الذهنية العاطفية، يؤمن بأهمية القوة الناعمة فى تحقيق أهداف القوة الصلبة، لا يتوقف أيضا عن استجلاب الأسلحة لدحر العدوان على أرضه، مهما كانت المبررات الأمنية التى يطلقها الجانب الروسى فهو يظل عدوانا، وإذا كانت روسيا قد اعتقدت، فى البداية، أن حربها على أوكرانيا تقدر بالأيام لينتهى الأمر باستسلام البلد الذى كان يعتقد أنه لا يحتمل سماع دوى طلقات الرصاص لبضع ساعات، فما حدث، وعلى مدى الشهور الماضية، أكد خطأ الحساب بالورقة والقلم، قُتل على أرض المعركة عدد من الجنرالات الروس.
وطلبت أكثر من دولة أوروبية مثل السويد وفنلندا الانضمام لحلف الناتو، أى أن سلاح التخويف الروسى لأوكرانيا بسبب تسريع إجراءات انضمامها للحلف لعب دورا عكسيا، حفز الدول الأوروبية الأخرى على البحث عن حماية عسكرية ضد روسيا، ردود فعل لم يتصورها أبدا بوتين فى حربه التى أصابت العالم كله بإصابات اقتصادية لا يمكن التعافى منها بسهولة، مهما كانت المبررات الروسية، فإننا ندفع ثمن حرب لسنا طرفا مباشرا فيها.
لم تكن المرة الأولى التى يرى فيها الناس عبر الفيديو ظهور زيلينسكى، فى مناسبة فنية، فعلها فى جوائز جيرمى، وحاول أيضا فى مسابقة الأوسكار الأخيرة، تسربت أنباء ثم تم الاكتفاء بإعلان التعاطف، هذه المرة تكتمت إدارة (كان) الموضوع برمته وأحاطته بسرية شديدة حتى تزداد ضراوة الضربة، ثم أباحت به تماما للجميع فى تسجيل طال زمنه، واضطر زيلينسكى إلى تكرار المعلومات، وكانت الكلمة بحاجة إلى (مونتاج).
إلا أنه فى نهاية الأمر تقمص شخصية شارلى شابلن الذى قدم أفلامه فى زمن ما قبل الصوت (السينما الصامتة)، وكان من أكثر السينمائيين عداء لاستخدام الحوار، على أساس أنه يفقد السينما لغتها وعالميتها، إلا أنه، فى نهاية الأمر، استسلم وجاء فيلمه (الديكتاتور العظيم) 1940، باكورة تلك الأفلام الناطقة، وبالفعل كان ناطقا ليس فقط بالصوت ولكن بالمشاعر المكبوتة ضد هتلر.
الفيلم دفع شابلن إلى استخدام الحوار لأول مرة وكسر حاجز الصمت، للكلمة سحرها وقوتها ولا يمكن استبدالها بالحركة ولا حتى بكتابة التعليق على الشاشة.
زيلينسكى حرص على تأكيد التماثل بين هتلر وبوتين، وعلى الجانب الآخر بينه وبين شابلن، برغم أن بينه وبين شابلن صلة قربى، مع اختلاف المكان وتباعد المكانة، كل منهما ممثل يصنف كوميديانا، شابلن أسطورة عالمية ولايزال، وزيلينسكى كممثل كوميدى لم تتجاوز شهرته، قبل أن يحصل على كرسى الحكم، جمهور أوكرانيا، إلا أنه حقق العالمية كرئيس ملهم لشعبه وجيشه، ولا يتخلى أبدا عن ارتداء سترته العسكرية، الغريب أن أول اتهام وجه إلى شابلن بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية الحرب الباردة بين روسيا وأمريكا، هو ما يعرف بـ(المكارثية)- نسبة إلى السيناتور الأمريكى (مكارثى)- مقصود بها الشيوعية ولكن هذه حكاية أخرى.
نعم الحرب متعددة الوسائل والأسلحة ليست فقط تلك التى نصفها بالأكثر تدميرا أو الأبعد مدى، يظل سلاح الفن هو الأكثر تأثيرا بدليل أن (الديكتاتور العظيم) بعد أكثر من 80 عاما لايزال حاضرا بقوة، وتقول المؤشرات إن معدلات البحث عن الفيلم ارتفعت بعد كلمة زيلينسكى.
فى عالمنا العربى، هل يتكرر ما حدث فى (كان)؟، لا أتصور أن أى مهرجان عربى من الممكن أن يتخذ خطوات مماثلة فى مقاطعة الفيلم الروسى أو فى الحفاوة بالمعارضة الروسية، نظرا لأن الموقف السياسى والاقتصادى واللوجيستى فى عالمنا العربى تجاه روسيا يقف على الحياد، ولا يمكن أن يخرج مهرجان عن سقف الدولة السياسى، ورغم ذلك يبقى السؤال: هل يعبر مهرجان (كان) بالضبط عن الموقف الرسمى الفرنسى أم أن القائمين عليه لديهم مساحة فى الاختيار؟.
يحدث نوع من التوافق، مثلما انحازت فرنسا الدولة، وأيضا المهرجان، لأفلام (الربيع العربى) وعرضت أفلاما تم إعدادها قبل أسابيع قليلة من الدورة التى أقيمت فى (كان) عام 2011، وعرضت رسميا ولأنها سياسيا توافقت مع ثورة الربيع العربى وشاهدنا أفلاما من مصر وسوريا وليبيا وتونس واليمن، والفيلم المصرى تحديدا (18 يوم)، أقيمت من أجله احتفالية خاصة وسجادة حمراء.
وبرغم الإعلان أكثر من مرة عن عرضه تجاريا بمصر، إلا أنه فعليا لم يعرض وأعتقد بعد مرور أكثر من عشر سنوات لن يعرض، الفيلم شاهدته فى كان وفى عدد من المهرجانات العربية، شارك فى تنفيذ أفلامه العشرة القصيرة مخرجون من مختلف الأجيال: يسرى نصرالله وشريف عرفة ومروان حامد وكاملة أبوذكرى وشريف البندارى وأحمد علاء وغيرهم، وعديد من النجوم يسرا وأحمد حلمى ومنى زكى وهند صبرى وعمرو واكد ومنة شلبى، وتحليلى أنه لن يعرض لأن أغلب المشاركين فيه- وبالمناسبة قد تبرعوا أيضا بأجورهم للمساهمة فى إنتاجه- تغيرت قناعات جزء كبير منهم، بثورة 25 يناير، وهناك من فقد حماسه.
ويبقى الحديث عن فيلم الافتتاح (فاينال كتْ) القطع الأخير، أو بلغة السينما المونتاج الأخير، وهو ما يستحق مساحة قادمة!!.
التعليقات