الحبيبة ماما فى هذا الشهر عيد ميلادك وذكرى فراقك، اليوم الحلو الذى شهد قدومك إلى الدنيا هو نفس ذات اليوم المر الذى أعلن انسحابك من الحياة، اليوم كئيب وأنفاسه ثقيلة يأتينى كل عام محملًا بكل حيثيات الفراق ومعانى الافتقاد ومشاعر الوحشة واليتم. سافرت على متن الطائرة المتجهة إلى الجنة حيث اللاصراعات واللاصدامات واللاأطماع واللاأوجاع وتركتنى بمفردى أواجه صراعات وصدامات وأطماع وأوجاع الحياة، ألم نتفق ألا نفترق.
لقد أنهيت مدتك فى كشوف الأحياء غير آسفة ومكتفية بهذا القدر من الشقاء البشرى، واليوم عُدِتِ من جديد تتربصين بى وأنا التى أتحاشى كل الطرق المؤدية إليك.
مازلت أذكر ذلك الساتر الهلامى من المشاحنات والمجادلات الذى كان يبعدنا ويقربنا، يفرقنا ويلاقينا فى آن واحد، كنا شقيقتين، فوق روس بعض، إحداهما آمال العندة والأخرى حنان المتمردة، لم نكن أمًا وابنة بالمعنى المتعارف عليه، علاقتنا كانت مزدحمة مكثفة متلاحقة نعيشها وننفقها بسرعة جنونية، تاهت من بين أيدينا التفاصيل وانحصرت الأحاديث الجانبية فى ملابسات غرامك وافتتانك بالمحاور مفيد فوزى الذى كان يمثل لك الدنيا بأسرها، لم أرَ فى حياتى امرأة أحبت وانصهرت وتشرنقت لحبيبها مثلك، وأعلم أنكِ انتشيتى بمولدى لأنى منه، من صُلب ضلوعه التى كنت تتلفحين بها وقد تعاطفت مع عشقك له فى صورتى، ولم أغَره يومًا منه بل احترمت مشاعر كيانك المنحاز له دومًا وأبدًا، والذى لا تعرفينه وطالما تشككتِ فيه ورحلتِ عن عالمنا قبل أن تدركيه أنه هو أيضًا كان متيمًا بك وأحبكِ إلى المنتهى، ربما كان قليل الكلام وهكذا هو ولايزال، صادق الخطى يمشى مؤمنًا مثلما أحببته والتحمت به فى وحدة واحدة لم يستطع إنسان أن يفرقها على وجه الأرض، هذه الوحدة الواحدة هى تركيبتى الفولاذية التى أرتكن عليها وأعافر.
ولن أنسى ما حييت كل الذى زرعتِه فى وجدانى وأحصده اليوم، فقد علمتِنى يا أماه أن الطريق إلى الحقيقة يمر من القلب لا من الرأس، وأن القلب هو الدليل الذى نتغلب به على النفس الآمرة بالسوء، وأنه مهما حدث فى الحياة ومهما بدت الأشياء مزعجة وحتى لو ظلت جميع الأبواب موصدة، فلا أسمح لنفسى بالدخول فى ربوع اليأس، لأن الله عز وجل حتمًا سيفتح لى دربًا جديدًا مفرحًا أكثر جدًا مما أطلب أو أفتكر، فالخالق الأعظم أوجد انسجاما كاملا وتوازنا دقيقا فى كل ما فى الكون ولا شىء يحدث إلا بأمره، وجميع طرق الرب رحمة وحق لحافظى عهده وشهاداته، مازلت أذكر ولن أنسى مفردات تربيتك التى علمتنى عفة الروح قبل الجسد وكانت نابعة من حكمة قلبك حين كنتِ تحدثينى عن فلسفة العلوم وكيف أنها ترتقى فى أربعة، كونية لإصلاح الجسم، وأدبية لإصلاح اللسان، ونظرية لإصلاح الفكر، ودينية لإصلاح الروح، والمرء بالروح لا بالجسم إنسان وقد أعجبتنى لعبة الأربعة معان وكتبتها على لوح قلبى، أربعة تحفظ من أربعة، العفة من الحرام، والمعرفة من الآثام، والمروءة من الغدر، والخير من الشر، وأربعة تدل على الجهل، صحبة الجهول وكثرة الفضول وإذاعة السر وإثارة الشر، وأيضًا تأخذ من الأربعة لأربعة، من العافية للمرض، ومن الصبى للهرم، ومن الغنى للفقر، ومن الدنيا للآخرة، وأربعة يجب الدفاع عنها: الدين والشرف والمبدأ والوطن، وأربعة يجب ضبطها: اللسان والأعصاب والنفس والشعور، وأربعة يجب التخلى عنها: التملق والوشاية والتبذير والكسل، وأخيرًا وليس آخرًا أحذر من أربعة: أحذر على عقيدتى أن تفسدها الآراء، وعلى عبادتى أن تفسدها الأهواء، وعلى عملى أن يفسده الرياء، وعلى خلقى أن يفسده الخيلاء.
أما عن أحوالى فأنا سأحدثك ولا حرج، أقف اليوم على جبل التوبات فى محاولة لاستدعائك بالعودة من جديد لسماع اعترافاتى الليلية، اسمعينى يا أماه حتى النهاية ولا تدمعى، فمن رحم الأحزان تشكلت وتبلورت رؤيتى وتخطيت الحواجز وعبرت المدى، آمنة راضية أنى بخير أو قد أبدو كذلك، لا أعرف، فى جميع الأحوال أقولها دومًا نشكر ربنا ويكفينى نعمته لأن قوته فى الضعف تكمل، وهو يعلم أن نجاحاتى فواصل تبتلعنى إلى حين، لكنها لا تشبع دنياىَ، ففى عينى تعاسة ساكنة أو أحلام مبتورة لا أعلنها لكنى أدركها فى قرارة نفسى، ولا ينقذنى منها سوى أحضان ابنى واحتواء أبى وصحبة المقربين إلى قلبى، بارك الله فيهم وحفظهم لى سالمين معافين، لكن الحياة لا تزال تحاصرنى وكثيرًا ما ألوم نفسى لماذا اختصرت منذ المهد مراحل عمرى، لم يكن عندى الوقت الكافى للاستمتاع، تحول كل شىء لدىّ إلى التزام وغابت بهجة المفاجآت: لماذا أخمدت ثورتى مبكرًا وارتضيت الجمود، أنا الآن يا أمى فى مفترق طرق أحاول تعديل خارطة حياتى كما أتمنى، أراهن يا أمى على عمر جديد – لانج سكيب يملأ خضاره أوطانى فيتجدد مثل النسر شبابى، أحتاج إلى دعائك يا أمى كى أنسى كل ما وراء، وأمتد إلى كل ما هو قدام، وأسعى نحو الغرض، أحتاج إلى دعائك حتى أنعم بالسكينة والسلام وأزمنة الراحة التى طالما حلمت بها، صلّى من أجلى، من أعلى السماوات حيث عرش النعم فيتحقق لى الذى وعدنى به ملك الملوك ورب الأرباب الذى فى يده حياتى وله الأمر.. وسلامًا لروحك الغالية.
إمضاء
حنونة
التعليقات