على جانب الطريق الصحراوي، عند الكيلو ١٣٠، غلبني الشوق للكتابة وأنا أقود سيارتي. أحب القيادة على الطرق السريعة؛ تأسِرُني.
استمتع بسَيري وأنا أقود في منتصف الطريق، ويحِدني خطي الطريق الأبيض المتقطع، ثم يرتفع ويهبط بي الطريق تماما كما تفعل بي الحياة.
منتهى المتعة حين تكتشف أنك مازلت قادرًا على القيادة في دربك وأنك لازلت تجيدها.
أجمل اللحظات عندما يدور بي الطريق وأنا أسير على مرتفع ومنحنى كاشفًا أسفله. هنالك استطيع أن أقف على عمري من سفح عالى أطل وأطلع على ما بداخلي.
يبدو لي أن الطريق يلتقي في نهاية خط الأفق، ثم تتجمع السحب المتراكمة رباعية الأبعاد يشوبها اللون الرمادي الراقِ، ومن خلفها سماوات زرقاء صافية تؤمن بداخلك الحياة. زخم السحاب هذا مجتمعًا يُخرج من قلبي الكلمات.
الطريق يشبه حياتي، أحب أن أكتب وأنا أقود، مجنونة انا بحب الكلمات. تبهجني أسراب الطيور الصغيرة وهي تحلق بالقرب من زجاج السيارة. يالها من روعة تغمرني!
يختلج قلبي بالكلمات، فأعجز عن الإستمرار في القيادة وها أنا أتوقف، أنظر في مرآتي الجانبية فأرى الطريق خالِ الوفاض من خلفي ومن أمامي كقلوب الكثير منا، وإن سطعت شمسه وفاض خيره.
ما تلبث أن تمر بين الحين والآخر سيارة مسرعة وأنا متوقفة على جانب الطريق.
استمتع أن أرى أمامي وخلفي بوضوح. أن أرى بوضوح هي متعة وأن أستمتع بالرؤيا هو تمامها. لطالما كان معرفة قلوب البشر وإدراك الأمن بجانبهم هِبة أجيدها. خط الأفق الأمامي والخلفي يصنع في مشاعري المعجزات، وكذلك تفعل بنا الحياة!
على الطريق تسير وتتحسَّس طريقك في كل اتجاه وأنت تبحث عن الأمان، أليس هذا شغفنا في الدنيا؟
تمضي وأحيانًا أخرى تتوقف لترى أين تسير؟ ما هو شعورك عندما تتوقف؟ وهل يستحق الوصول عناء الطريق؟
تضفي الأشجار على جانبي الطريق البهجة والأمن لقلبي بشموخها وبهائها. أنا بخير طالما رأيتها وطالما أضفت السكينة على روحي وأشّعَت الطمأنينة في وجداني وظلت بجانبي؛ هي الشامخات الراسيات التي تعيش بداخلي وستبقى دائما ولن أفتقدها.
لا أحد توقف إلى جانبي، أنا على الطريق وحدي. استمتع بلوحة تراها عيني، سقف أزرق، حُجب بيضاء ولون أخضر على جانبي الطريق. خط الأفق يولد في روحي حب الحياة والتمتع بأسرارها والرغبة في العيش داخلها بخير وسبر أغوارها.
لم يقلق عليّ أحد. لم يتوقف عند وقوفي أحد، ولم أعِر أحدًا اهتماما. أنا مُفتقدة فقط داخل الدائرة التي تُحبني.
مازالت السيارات تمر، ومازلت أترقب وانا على يقين أن لا أحد سيتوقف.
أنا الآن وحدي مع أنغام الموسيقى والأرض وخط الأفق والسماء.
انعزلت عن الحياة وكأن قلمي هو قلبي، وكأني أقف لأرى نفسي وأطل على عمري، وكأني توقفت لأرى نفسي من الداخل بعيدًا عن البشر.
وحيدة تمامًا في سيارتي تعزف الموسيقى على أوتار قلبي. تمر السيارات بجانبي كالبرق، كما يفعل البشر، ولا أحد يتوقف.
قلمي فقط يكتب.
أحب الكتابة وأنا أقود، تضاد يعجبني. يساعدني ذلك في التعرف أكثر على نفسي، قد أجد ما يسرني وأحيانًا أصادف ما لا يرضي قلبي.
هكذا غدوت اليوم ممتلئة بنفسي، اقتنص لحظات طارئة على روحي لأتعرف على شغف خفيّ عني.
أُتم غدًا عامي الخمسين، ولازلت أتعرف على نفسي، وهذا ليس بغريب على من اعتاد مصادقة روحه وأَحسَن الاستماع لصوتها.
تمخضت الأيام عن أعز أصدقائي؛ قلمي. معه أكون على سجيتي، لا يخذلني، وقادر دومًا على إخراج ما لا أعرفه عن نفسي.
سأظل بخير مادام قلمي يكتب ومشاعري تتأجج وقلبي يستقبل.
أحيانا يكون أجمل ما تصل إليه في يوم من الأيام هو أن تجيد التعرف على نفسك، هنالك ستبقى بخير.
توقفت على جانب الطريق لأرحب بجميل وجدته في نفسي، وأنْ قد سَرّني ما وجدتها عليه.
سأتوقف الآن عن الكتابة وأُعاود القيادة للبحث عن الجمال في أيامي بعد الخمسين.
لن أخجل أبدًا من سني، افتخر أني أمضيت عمرًا بمحبة، لم أكن سببًا لوجع أحد، واجتهدت في مودة الجميع.
أحب سنوات عمري وأقدرها، فهي تعبر عن روحي التي لا تشيب وقلبي المفعم بالحياة.
أدعو الله أن يظل قلمي معبرًا عن قلبي، وأن يظل الطريق يأسِرُني، وإن لم يتوقف أحد ليتفقدني، أن استمر أقود وأكتب على جانب الطريق.
التعليقات