على الرغم من ارتباط وجود الإبل بالمناطق الصحراوية والبوادي؛ فإن هذا الكائن العظيم يمتلك مريدين في جميع أصقاع الأرض، حتى هناك في الشمال، بوسط وشمال القارة الأوروبية العجوز، في مملكة هولندا، وبالتحديد في مدينة (سرتوخن بوتش).
يقول "فرانك سمتث" ـ مالك المزرعة: "عليك أن تظهر للإبل بعض الاحترام، فهي تتمتع بطبع حرون أكثر من البقر"، بهذا الفارق الواضح في الثقافات، بين الأوروبيين الذين اعتادوا تربية الأبقار في مزارعهم وأراضيهم الخصبة، وبين الجمل الصحراوي عندما يجد نفسه في بيئة غير بيئته؛ كان حجم التحدي الذي واجه الهولندي الشاب في إنشاء مزرعته لإنتاج ألبان الإبل.
مجلة "أعمال الشرق الأوسط" زارت المزرعة التي تقع خارج المدينة بعدة كيلومترات، متخذة لنفسها مكانًا نائيًا وهادئًا ومنعزلًا. في المكتب الذي يقع في محيط المزرعة، وبالتحديد في غرفة الاستقبال؛ كانت الديكورات مصممة وفقًا للتراث البدوي، مع إضاءة خاصة وتصميمات وزخارف منتشرة في أرجاء الغرفة، السكرتيرة التي التقتنا اصطحبتنا في جولة في أرجاء المزرعة، للتعرف على المكان، ثم توجهنا بعدها لنلتقي بـ"فرانك سمتث" مالك المزرعة.
صعوبات وعوائق
يحظر الاتحاد الأوروبي استيراد الجمال، كما أن جمعيات الرفق بالحيوان تشكل عائقًا آخر، لكن وعلى الرغم من هذا؛ فقد نجح "سمتث" في تخطي العوائق في سبيل تكوين مزرعته، ذلك الحلم الذي راوده منذ شبابه، رغم أن الفكرة لاقت استغرابًا في البداية، حتى إن أطروحته الجامعية حول إمكانية تقديم لبن الإبل للسوق الأوروبية حصلت على تقدير "ضعيف جدًا"، وفي هذا سبق لـ"سمتث" أن صرح في أحد الحوارات الصحفية: "إنهم لم يفهموا، لقد استشهدت بالكثير من أبحاث وآراء منظمة "الفاو"، لكن أساتذتي قالوا إن الكلام الذي ذكرته لم يكن مبنيًا على أسس علمية كافية، ثم استخدمت الورقة ذاتها فيما بعد للحصول على منح وقروض لبدء المزرعة".
"فرانك سمتث" لم يتعد الثلاثين من عمره، درس الزراعة، وكان يحلم بتأسيس مزرعة لتربية الأبقار، إلا أن ظروفه المادية لم تؤهله لذلك، بعض أصدقائه كانوا يمازحونه قائلين: "يمكنك أن تؤسس مزرعة لتربية الجمال"، تلك الجملة التي داعبت مخيلته بعد فترة، وتحولت لهاجس، قاده إلى أن يشرع في تنفيذ حلمه بالفعل.
عانى الهولندي الشاب عدة أشهر مع البلدية، وعانى في إقناع "جمعية الرفق بالحيوان"؛ حيث إنهم يصنفون الإبل من الحيوانات البريّة، وليست من الماشية، وكان من حوله يحاولون إقناعه بأنها لن تغزو أوروبا أبدًا، إلا أن الإبل نجحت في أن تحمل أثقال "سمتث" في تحقيق حلمه الذي لم يكن يبلغه إلا بشق الأنفس. سمحت له البلدية أخيرًا ببدء مشروعه ومنحته قطعة أرض صغيرة بالقرب من سكنه الجامعي، وذلك فى أغسطس عام 2006 في مدينة (سرتوخن بوتش) أو كما يطلق عليها الهولنديون (دِن بوتش) في جنوب هولندا بمحافظة (نورد براباند) التي تقع على الحدود الهولندية ـ البلجيكية المشتركة.
دبي.. "وش الخير"
وقبل البدء في تأسيس المزرعة؛ سافر "سمتث" إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، وبالتحديد "دبي"، لعدة أشهر؛ لدراسة كيفية التعامل مع هذا المخلوق العظيم، وبعد عودته من "دبي" بدأ مشروعه بناقتين وجمل، استوردهما من جزر "الكناري" بـ"إسبانيا"؛ حيث كانت تلك الخطوة هي الصيغة القانونية الوحيدة المتاحة لاستيراد جمال تقع داخل نطاق الاتحاد الأوروبي، وبدأ المشروع يزدهر، والإقبال على حليب الإبل الذي يصل سعر اللتر الواحد منه إلى 10 يورو، ورغم غلائه يزداد وينتشر؛ خصوصًا بين جاليات المسلمين والعرب، الذين لديهم الخبرة والمعرفة بفوائده الثرية، فأقبلوا عليه يشربون منه بنهم؛ لأن حليب الإبل خالٍ من مادة (البيتالاكتوغلوبين) التي تسبب الحساسية الموجودة بألبان الحيوانات الأخرى.
توسع "سمتث" في مزرعته إلى أن وصل عدد نوقه إلى 40 ناقة وجملين؛ ما اضطره إلى أن يرحل لتوسيع مزرعته، وذلك في عام 2010 في منطقة (برليكُم) التي تبعد بعض الكيلو مترات عن (سرتوخن بوتش)، وتوسع هناك إلى أن زاد عدد الحلال الذي يمتلكه إلى ثمانين ناقة وجملين، مصنفة بين ثلاث حظائر من نوق "خليفة" ونوق "لُقّح" و"حيران"؛ حيث يحتفظ "سمتث" بالحُوار إلى أن يتم عامًا، ويصبح فصيلًا، ثم يبيع الذكر منه ويحتفظ بالأنثى.
الإبل والصقيع
ومع أن الجمل عرف بأنه سفينة الصحراء؛ لقدرته على التكيف مع ظروف الصحراء القاسية؛ فإن "سميتث" اكتشف أيضا مقدرة الإبل على التكيف مع الظروف شديدة البرودة في أوروبا؛ حيث تكتسي الإبل في فصل الشتاء وبرًا من الشعر الطويل الذي يحميها من الصقيع.
يقول "سمتث": "الجمال والنوق التي أملكها تبحث عن الدفء وتهرب من الأمطار والثلوج إلى الإسطبلات ولا تمرض إلا نادرًا".
وفيما يتعلق بسبب اختياره للإبل ذات السنم الواحد التي يطلق عليها (درومادارس)، أوضح أن ذلك يعود لمقدرة هذا النوع من الإبل على إنتاج الألبان وسهولة التعامل مع ماكينة الحلب بقليل من التدليل يتم حلبها، أما ذات السنمين وتسمى (كاميلن)؛ فهي صعبة الحلب عبر الماكينات.
ومزرعة "سمتث" ليست فقط لإنتاج الألبان، ولكنها مزار سياحي؛ حيث إنها المزرعة الوحيدة على مستوى أوروبا، وأيضًا مزار للأطفال وموطن للاحتفال بأعياد ميلادهم وللرحلات المدرسية.
وعندما استفسرنا عن الكيفية التي يتصرف بها "سمتث" مع النوق التي لم تعد لديها القدرة على الإنجاب وبالتالي على إنتاج الألبان؟ أجاب "سمتث": "هنا لم يُسمح بعد بأكل لحوم الإبل، لذا نرعاها حتى تموت، أو نعيدها إلى مزرعتها الأصلية".
التعليقات