الشرود والتشتت الذهني والنسيان وضعف التركيز.. ظواهر انتشرت كثيرًا بين مختلف الفئات العمرية خاصة في الآونة الأخيرة، أي منا لم يتورط في هذا المأزق إذا وجب عليه إنهاء عمل هام وضروري وليس لديه الكثير من الوقت المتاح الذي يسمح له بتأجيله ولكنه يحاول التركيز على ذلك العمل الصعب أو الممل –في بعض الأوقات- ولكن كل مرة تبوء محاولاته بالفشل إذ أنه لا يستطيع التوصل لحل سريع ينقذه من الوقوع في ذلك المأزق.
وكم من مرة دخلت إلى الغرفة ولم تسعفك ذاكرتك لمعرفة ما أردت جلبه أو ظللت تبحث عن هاتفك الضائع وأنت تتحدث مع صديقك من خلاله أو كنت على وشك أن تخبر شخصًا ما معلومة أو تسأله عن شيء ما ولكنك نسيت ما سوف تقوله فجأة وكأنه لم يكن.
الإنترنت مليء بالنصائح حول كيفية التركيز وتنشيط الذاكرة وتحسين أداؤها فيما أصبحت ظاهرة عدم التركيز وسط بحر من الانحرافات الذهنية ومصادر التشويش نتيجة للضغوط الحياتية التي نتعرض لها يوميًا، لكن أغلبها إما غير واقعي إلى حد كبير أو أنه لن يحقق النتائج المرجوة وسوف يذهب بك في نهاية الأمر إلى التشتت والخروج من أجواء العمل مثل إيقاف الاتصال بوسائل التواصل الاجتماعي وارتداء سماعات الرأس، أو العمل دون اتصال بالإنترنت.
والأهم من ذلك، أن العديد من هذه النصائح لا علاقة لها بما يكتشفه علماء النفس حول الطريقة التي يعمل بها العقل البشري، ولكن العلم لديه بعض النتائج البديهية التي يمكن أن تساعدك.
العديد من الأشياء التي نعتقد أننا يجب أن نفعلها لتعزيز تركيزنا على العمل في الأصل هي طرق مخالفة للطريقة التي يعمل بها دماغنا بشكل طبيعي، إذن ما الذي يمكن أن نتعلمه من علم التركيز لإنجاز المزيد من الأعمال، وهل هناك أي من النصائح الشائعة صحيحة بالفعل أم أن أغلبها خاطئ؟
في هذا الصدد نطرح عليك بعض الطرق العلمية لتعزيز تركيزك، بحسب تقرير أعده موقع "بي بي سي كابيتال" البريطاني والتابع لهيئة الإذاعة البريطانية.
اسمح لذهنك بالشرود
قد يبدو الأمر غير بديهيًا أو منافيًا للمنطق، ولكن السماح لذهنك أن يهيم ويشرد قد يكون أحد أفضل الطرق إذا كنت تكافح من أجل تحسين تركيزك، حيث اتفق إدراك متزايد لأوساط علماء النفس على أننا نقضي الكثير من أوقاتنا في أحلام اليقظة أي حوالي 50 ٪ من الوقت من خلال بعض التدابير.
فيما رأي بعض علماء النفس إن شرود الذهن لا يمثل خللًا كبيرًا، ولكنه جزء أساسي من النظام الدماغي نفسه الذي يمكن أن يساعد أدمغتنا على القيام بوظائفها، وبالنظر لأسلوب عمل النظام الدماغي فعدم التركيز سبب وجيه.
ويتطلب التركيز عمل شبكة من مناطق الدماغ بما في ذلك القشرة الأمامية، وهي المسؤولة عن مقاومة التشويش وتشتت التركيز و السيطرة علي دوفعنا الطبيعية للقيام بشيء أكثر متعة، ويتطلب الحفاظ على أداء هذه الشبكة طاقة أكبر من مجموعة مناطق الدماغ التي تنشط عندما لا نفكر في شيء محدد على وجه الخصوص، وحتمًا في وقت ما خلال اليوم نشعر بالإنهاك وهنا يبدأ العقل بالشرود، وإذا كان هذا حتمًا سيحدث فلماذا لا نخصص وقتًا لذلك؟
أفاد بول سيلي، عالم النفس في جامعة هارفارد، أن هناك فرق بين عدم التركيز المتعمد والعرضي، ويقول إن النوع العرضي فقط الذي يكون له تأثير سلبي علي المهام عند الحاجة للتركيز على اشياء واجب القيام بها.
وأضاف "إذا كانت المهمة سهلة، فمن المرجح ألا يؤدي الشرود عمدًا إلى التأثير سلبًا علي الأداء، بل ينبغي أن يتيح للناس فرصة جني فوائد شرود العقل، مثل "حل المشاكل والتخطيط"، وهذا يشير إلي أن السماح لعقلك بالشرود بين حين وأخر قد يكون له فوائد مثمرة.
وهنا ينصح "سيلي"، بالتفكير في شيء لا علاقة له بالمهمة المراد إنجازها، ربما حل مشكلة أو التفكير في شيء آخر ومن ثم العودة إلى مهمتك الأساسية".
القليل من المرح
غالبًا ما يُنظر إلى مقاطع الفيديو المضحكة على أنها قمة الإلهاء النهائي، إلا أن بعض علماء النفس يعتقدون أنها قد تساعد فعليًا على وضعنا في الحالة الذهنية الصحيحة للاستمرار في العمل.
ويعود ذلك إلي أن التركيز علي شيء صعب يتطلب قوة الإرادة، بغض النظر عن مدي حبك لوظيفتك، ووفقا لدراسة حديثة، فإن إحدى الطرق الجيدة لتعزيز قوة الإرادة هي الضحك.
و استنادًا إلى التجارب، وجد أن الأشخاص الذين شاهدوا مقاطع فيديو مضحكة بذلوا جهدًا أكبر من الأشخاص الذين شاهدوا مقاطع فيديو كانت تبعث على الاسترخاء ولكن ليست مضحكة لحل لغز طويل وصعب ومستحيل، وخلصت الدراسة إلى أن الفكاهة تساهم في تعزيز قوة الإرادة وتحفزنا بشكل فعال بحيث يجب أن تشجع أماكن العمل على ثقافة أكثر "مرحًا".
ويقول ديفيد تشينج، وهو باحث في مجال القيادة، بجامعة أستراليا الوطنية في كانبيرا، "إن خلق ثقافة مرحة في فريقك، سيكون أحد الطرق التي تساعدك على تعزيز إنتاجيتك في العمل"، ويضيق تشينج الذي قاد البحث. "بالطبع ، هذا ليس تصريحًا فارغًا لمشاهدة مقاطع فيديو القطط طوال اليوم ، ولكن أخذ الاستراحة العرضية للمزاح أمر مفيد ، خاصة عندما تشعر أنك متعب حقًا".
اجعلها أصعب
للتركيز بشكل صحيح يجب التخلص من جميع أنواع التشويش الخارجي، أليس كذلك؟ في الواقع وفقاً لإحدى النظريات المؤثرة، فإن العكس هو الصحيح.
توصلت نيلي لافي، عالمة نفس في كلية لندن الجامعية، إلي ما أسمته "بنظرية التحميل" في عام 1995، وتكمن الفكرة في أن هناك حدود لمقدار المعلومات من العالم الخارجي التي يمكن لأدمغتنا معالجتها في أي وقت – وعند تمام امتلاء "أماكن" المعالجة هذه يتدخل نظام انتباه الدماغ ليقرر ما يجب التركيز عليه.
وتشير التجارب التي أجرتها "لافي" أنه من الأفضل أن نعمل في بيئة ليست مرتبة وصامتة ، بل في الأماكن الفوضوية والمربكة أيضًا. وهذا لأنه بمجرد استيفاء جميع الأماكن الإدراكية ، يتعين على الدماغ أن يصب كل طاقاته في التركيز على المهمة الأكثر أهمية، بعد التخلص من كل مصادر الإلهاء.
لكن المشكلة في وضع هذا موضع التنفيذ هي العثور على النوع الصحيح من الإلهاء والاحتفاظ به في الجانب المناسب كي لا يصل إلي حد الاستغراق. هناك عدد قليل من التطبيقات ، مثل ommwriter أو focus@will، التي تضيف إلهاءات بصرية أو موسيقية للنظام، ولكن حتى الآن لم يتم اختبار أي منها في الدراسات العلمية وقد لا يكون أفضل من تشغيل الراديو.
والمهم هنا هو إعطاء عقلك ما يكفي للقيام به، بحيث لا يكون لدى عقلك الفرصة للبحث في مكان آخر عن التحفيز.
توقف عن العمل
عندما يكون الوقت ضدك، فإن أخذ استراحة قد يكون آخر شيء يدور في ذهنك. ولكن هناك كم هائل من الأدلة التي تشير إلى أنه يمكن أن يساعدك في الواقع على إنجاز المزيد من المهام. ويتمثل التحدي في الوقت الذي يستغرقه أخذ استراحة، وإلى متى، وماذا تفعل مع هذا الوقت الضائع.
تشير بعض الدراسات التي يرجع تاريخها إلى التسعينات إلى أنه نظرًا للاختلافات الطبيعية في دورة التركيز لدينا، يمكننا التركيز لأكثر من 90 دقيقة قبل أن نحتاج إلى استراحة لمدة 15 دقيقة.
فيما وجدت دراسات أخرى أنه حتى الاستراحة القصيرة أو القيلولة لبضع ثوان ستكفي، شريطة أن يلتهي الشخص تمامًا عن العمل خلال تلك الاستراحة.
وتميل الدراسات إلي أن ممارسة التمارين الرياضية أمر جيد يمكنك القيام به خلال استراحتك، حيث يبدو أنها تزيد انتباه الدماغ، مما يجعلها في حالة أفضل للرجوع للتركيز في العمل، خاصة إذا اتبعتها بمشروب يحتوي على مادة الكافيين. وتشير الدراسة إلي أن التمرين في الهواء الطلق وسط الطبيعة يحسن قدرة الأشخاص على التركيز.
ويعد التأمل خيار آخر. فهناك أدلة متزايدة على أن ممارسي رياضة التأمل ذوي الخبرة لديهم سيطرة أفضل على موارد انتباههم أكثر من غير المتأملين وأنهم أفضل بكثير في ملاحظة متى يتعين عليهم أخذ استراحة.
إذا كان كل ذلك يبدو مستهلكًا للوقت، فالخبر السار هو أنه مع أو بدون ممارسة، تساعد جرعة سريعة من الكافيين على تحسين الذاكرة ووقت الاستجابة والاهتمام على المدى القصير.
لا تجهد نفسك
وفقًا للدراسات التي أجراها جو ديجوتيس ومايك إسترمان في مختبر بوسطن للانتباه والتعلم في ماساتشوستس، من خلال تجارب تصوير الدماغ، وجدوا أن الإستراتيجية الأكثر نجاحًا للبقاء على المسار هي التركيز لفترة محددة من الوقت، ثم أخذ استراحة قصيرة قبل العودة إلى التركيز مجددًا. فالناس الذين حاولوا أن ينتبهوا طوال الوقت ارتكبوا المزيد من الأخطاء بشكل عام.
وبالمثل، وجد البحث الذي أجرته Christian Olivers من جامعة Vrije في أمستردام أن موارد انتباه الناس قد زادت قليلًا عندما تم إخبارهم ببساطة بالتراجع عن العمل والتفكير في شيء آخر بدلاً من التركيز بشكل كامل.
وقد يكون أكثر النتائج المفيدة في جميع البحوث في التركيز. كلما عرفنا أكثر عن الدماغ، كلما اتضح أن الضغط والإجهاد هو عدو التركيز. لذا خذ الوقت الكافي لفعل كل ما يتطلبه الأمر لكي تشعر بالهدوء.
التعليقات