فى البداية لابد أن نعرف من هو المفكر.
فالمفكر هو الذي يهتم بقضايا واقعه المعيش، أيا كان عصره ومكانه وزمانه، لماذا؟!، لأنه إذا لم يكن مهتما بقضايا مجتمعه فلا قيمة لفكره ويذهب بفكره حيث يشاء، ولن يكتب لفكره الإستمرار والبقاء.
وإنما المفكر الحقيقي هو الذي يتسم فكره بالديناميكية والحركية والاستمرارية، وإلا سيكون شأنه شأن من يدرس ويبحث من أجل البحث فيصنف باحث أو دارس.
أما المفكر فهو الذي ينتقل بفكره وما توصل له من نتائج إلي حيز التنفيذ على أرض الواقع، حتى إذا لم تتوافر له الإمكانيات اللازمة، على الأقل يخاطب بفكره أو يوجه في توصيات معتبرة إلي الجهات المسؤولة لتنفيذ ما أملاه عليه فكره.
إذن هو إنسان مهموم بقضايا واقعه، لا ينفصل بحال من الأحوال عن هذا الواقع، بل هو دأبه وديدنه الإجابة الشافية على الأسئلة التي تتعلق بهذا الواقع وهذه القضايا، بل ويجتمع حوله القوم يتباحثون ويتدارسون من أجل إحداث صحوة فكرية معملين عقولهم مستغرقين بالكلية قلبا وقالبا مجتهدين قدر استطاعتهم للوصول إلى حلول للمعضلات التي تواجه بنو جلدتهم.
إذن هؤلاء قوم ليسوا بمعزل عن المجتمع، بل يخالطون الناس ليس لهم هم اللهم إلا قضايا القوم على كافة مستوياتهم وطبقاتهم وتوجهاتهم الفكرية، فالمجتمعات قديما وحديثا ووقتها المعاصر مختلفة الطبقات .
فهناك الطبقة الإقتصادية الرأسمالية، تحتاج إلي مفكر من طراز فريد يكون مفكرا إقتصاديا وليس بالضرورة أن يكون أستاذ جامعيا، وإنما يكون على وعي ودراية بمشكلات مجتمعه الإقتصادية وكيفية التعامل بمنهج منضبط للخروج من الأزمات إن وجدت، أو تكون له رؤية ثاقبة للنهوض بالاقتصاد الذي يرتقى ببلده ويضعه في مصاف الدول المتقدمة.
وسمعنا كثيرا عن دويلات أصبحت دولا بفضل نماء الإقتصاد لديهم بفضل مفكرين إقتصاديين، وضعوا خطط إستراتيجية وأحدثوا صحوة تنموية إقتصادية فصنفت بلدانهم من الدول المتقدمة إقتصاديا بفضل من؟!، بفضل هؤلاء المفكرين.
قس على ذلك في مجال التعليم على كافة مستوياته سواء التعليم إلالزامي أو التعليم الجامعي، إذا أردنا صحوة تعليمية حقيقية فحاجة أي دولة إلي مفكرين، لا يتحدثون فقط، فما أكثر الحديث، وإنما يمسكون بخيوط الأزمة من أولها ولا يقدمون حلولا وقتية أو أنصاف حلول.
وإنما يكون جل اهتمامهم منصب على تحديد خارطة طريق مبنية على أسس وقواعد محددة لا تقبل شكا ولا جدلا، وقد تقبل التعديل وفقا لمتطلبات الحاجة، علاجا جذريا، بعد الوقوف على أسباب الداء، ومن ثم يكون الدواء.
وهذا لن يتحقق إلا بجهود مضنية من مفكرين لا يفكرون داخل الصندوق تفكيرا كلاسيكا، وإنما يفكرون خارج الصندوق بفكر حداثي مستنير يتماشي مع الحداثة والمعاصرة.
وكذلك في المجال الفكر الديني، فليس كل من هب ودب نلقبه بالمفكر الإسلامي إذا كان مسلما أو المسيحي إذا كان مسيحياً أو يهوديا ، فليس كل من قرأ كتابا أو مجموعة كتب في مجال الفكر لقب بهذا اللقب_ وخصوصا في المجال الديني الذي بات مستباحا_ فكل أصبح مفكرا إسلاميا، كل أصبح منظرا، كل أصبح مفتيا، كل أصبح مدافعا، كل نصب نفسه مفكرا، ويجلس على مواقع التواصل الإجتماعي إذا لم تكن له منصات ومنابر إعلامية.
يجلس ويكتب ويفتي بغير علم ويلقب نفسه بالداعية أو بالفقيه أو بالمفكر، ولا يعلم هؤلاء أن تلك طآمة كبري قد تضر كثيرا بالدين، وقد يأتي بآراء وأفكار هدامة تشتت عقول وقلوب وأفئدة الناس، أو تكون لهم منابر إعلامية مسموعة ومرئية ولها جمهورها الكبير، فيجلسون ليلا ونهارا ليس لهم هم إلا تخريب العقول والتشكيك في الثوابت والطعن على الرموز الدينية وعلى معجزات الأنبياء جميعا ظآنين أنهم يحسنون صنعا.
والنتيجة المؤكدة ضلال مبين، وحجتهم حرية الرأي وحرية التعبير، وحرية الفكر، أي حرية هذه، للأسف استغلوا الحرية أسوأ استغلال والحرية ورب الحرية وواهبها منهم براء.
فهل هذا فكر مستنير تتفتح معه العقول، هل هذا فكر صالح يقود إلي الهداية، أم إنه فكر عبثي طالح يقود العقول إلى الشك والتيه والضلال.
ثم ضوابط لمن يريد التفكير الديني المنضبط، على الأقل يكون على دراية بضوابط ومقررات الشرع من حفظ لكتاب الله وسنة وأحاديث النبي وعلى دراية بالإجماع والرأي والمذاهب الأربعة وأن يعلم فحوى ومدلولات الإجتهاد.
وكل ذلك لا يكون إلا من خلال دراسات مستنيرة في أماكنها المعتبرة من الكليات الشرعية وكليات الدعوة ومعاهد الدعوة على أيدي متخصصين، وبعد ذلك يقررون هل يتصدرون المشهد أما يتراجعون خطوات إلي الخلف.
فإنه ليس كل من قرأ ودرس يلقب بمفكر، وإنما المسألة تحتاج لروية وتؤدة وسكينة واطمئنان عقلى لكل ما يعرض على العقل من قضايا.
أتدرون عندما سئل سقراط هل أنت حكيم قال أنا محب للحكمة ولا أدعيها لأن الحكمة لا يوصف بها إلا الإله، قس على ذلك ولله المثل الأعلى هل أنت مفكرا، قل أحب الفكر والنظر والاستبصار والفهم والدراية، ساعتها سيلقبك القوم بهذا اللقب.
مجتمعاتنا العربية تحتاج إلي مفكرين أكفاء ولا أقول فلاسفةحتى لا يتهمنا أحد بأننا نريد أن نتصدر المشهد أو نروج لفكرنا وإن كان جل الفلاسفة وشغلهم الشاغل منذ نشأة التفكير الفلسفي بدءا من حضارات الشرق القديم وحتي عصرنا جل اهتماماتهم الإنسان الذي يحيا في واقع يعج بالازمات المتلاحقة عجا.
نحن نريد مفكرون حقيقيون مهمومون بقضايا المجتمع وقضايانا كثيرة وملحة ولكنها ليست عصية الحل، فلو أخذنا على سبيل المثال بلدنا الغالي مصر وطننا الحبيب، شأنه شأن كل البلدان به أزمات تحتاج إلى جهود مفكرين من طراز فريد، فلدينا المشكلة السكانية وكيفية توظيف هذه الثروة البشرية لخدمة البلد، نحتاج مفكرون اجتماعيون،لتهذيب هذه الثروة وترويضها بغية الإستفادة منها.
لدينا مشكلات التسرب من التعليم، الوقوف على الأسباب ووضع الحلول، مشكلات أطفال الشوارع، مشكلات الزواج المبكر، مشكلات وقضايا المرأة، مشكلات البطالة التي تحتاج إلى مفكر يخاطب الشباب خطابا توعويا مفيدا منضبطا.
يصحح لهم المفاهيم الخاطئة التي علقت بأذهانهم وأن الدولة عليها توفير فرص عمل، نعم ولا ننكر ذلك لكن هل ننتظر أم نشمر سواعد الجد ونبحث عن العمل.
كثيرة هي مشكلاتنا التي تحتاج إلى وقفات ووقفات من مفكرين محبين لأوطانهم، يتخندقون في خندق واحد مع القيادة السياسية التي لا تألوا جهدا لمحاولة توظيف فكر كل مفكر مستنير لخدمة البلد وللوصول بها إلي تحقيق نهضة شاملة وتنمية مستدامة.
حفظ الله بلدنا وقيادتها ووفق الجميع لم فيه الخير، وحفظ جميع بلداننا العربية والإسلامية.
وحفظ كل مفكر أعمل عقله اعمالا صحيحا من أجل تحقيق الإطمئنان العقلي والقلبي للآخرين، أقصد أبناء أوطانهم.
أستاذ الفلسفة بآداب حلوان
التعليقات