“خَبِّرْهُن عاللِّي صاير بلكي بيوعى الضمير”… صدح صوتُ جارة القمر “فيروز” بهذه الصيحة التي مزّقت الصمتَ والعدم، في محاولةٍ مستميتة لإيقاظ ضمير العالم الميّت، بعد مرور سبعة عشر عامًا على النكبة عام 1948. فقد سجّلت في الإذاعة اللبنانية الأغنية الخالدة “مرّيت بالشوارع”، التي حملت في طيّاتها تلك الكلمات الموجعة: “خَبِّرْهُن عاللِّي صاير بلكي بيوعى الضمير”. ومرّت ست سنوات على تلك الصرخة الفيروزيّة، لتُعيدها فيروز والرحابنة مرّة أخرى في ألبومها “القدس في البال” (1971)، المُهدى لفلسطين، والمتضمّن تلك الأغنية البديعة المؤثّرة، التي عبّرت عن آلام وصرخات شعب الوطن السليب ومآسيه.
وبعد ستّين عامًا من صرخة فيروز والرحابنة، التي كانت صدى لصرخات وآهات شعب فلسطين، ازدادت الصرخات والآهات، وتزداد كل يوم، عسَى أن يستيقظ ضميرُ العالم الميّت. ومن منّا لم يسمع بحكاية الطفلة الفلسطينية الشهيدة هند رجب، ابنة الستة أعوام، التي حصدت روحَها الطاهرة رصاصاتُ العدوّ الصهيوني بلا رحمة في يناير/جانفي 2024؟ ومن منّا لم يستمع إلى استغاثاتها لساعات طوال، وهي مرعوبة وسط جثث خالها وزوجته وأبنائه الذين سبقوها إلى الجنّة، لعلّهم شيّدوا قصرًا من رحمة الله لاستقبال الشهيدة هند، التي ارتقت بعدهم لتشكو إلى الله ما لحق بها من ظلم الكيان الغاصب وجيشه المجرم، وتقاعسنا، وقلّة حيلتنا، وضمير العالم الميّت الذي يخشى الكيانَ الصهيوني وأمريكا وحلفاءها أكثر ممّا يخشى الله.
بعد ستّين عامًا من صيحة فيروز، التي استصرخت فيها ضميرَ العالم دون جدوى، عادت المخرجة التونسية كوثر بن هنيّة لتستصرخ الضمير ذاته من خلال فيلمها “صوت هند رجب”، لعلّه يستيقظ! وصحيح أنّ الفيلم، الذي فاض بمشاعر جياشة وشحنة عاطفية مؤثّرة، حصد ثماني جوائز في مهرجان فينيسيا (البندقية)، وحقّق نجاحًا سينمائيًا كبيرًا، لكن ضمير العالم ما يزال في سباته، أو بالأحرى في موته الإكلينيكي، ولم يستيقظ.
تميّز فيلم “صوت هند رجب” بإيقاعٍ مشدودٍ، لاهثٍ، متوتّر، نجح في نقل الأجواء التي يحياها شعب فلسطين البطل. ورغم أنّ أحداث الفيلم تدور في مكان واحد، هو أحد مقارّ الهلال الأحمر الفلسطيني في رام الله (الضفّة الغربية)، بعد أن دمّر العدوّ الصهيوني مقارَّه في قطاع غزة، ولم يبقَ له من فرق المسعفين إلا القليل، فقد حاول جاهدًا إنقاذَ ما يمكن إنقاذه بالتعاون مع وزارة الصحّة الفلسطينية والصليب الأحمر الدولي، الذي يتولّى التنسيق مع الجيش الصهيوني حتى تتحرّك سيارات الإسعاف بأمان.
كان السيناريو الجيد والحوار المتميّز من أبرز نقاط قوة الفيلم، وإن لم تكن تقنيات التصوير ولا حجم اللقطات على نفس المستوى من الجودة. أداء الممثلين جاء متميّزًا، خصوصًا الممثل الذي لعب دور مهدي، والسيدة التي أدّت دور رنا. أمّا الممثلة التي جسّدت شخصية نسرين، فلم تستجب بالقدر الكافي للمتطلّبات الانفعالية للشخصية، فبدا أداؤها متذبذبًا إلى حدٍّ ما، اللهمّ إذا كانت الشخصية – كما كُتبت وحسب تعليمات المخرجة – تتطلّب بعض الثبات الانفعالي إلى حدّ البرود أحيانًا. كذلك الممثل الذي لعب دور عمر، فرغم موهبته، كان بحاجة إلى إرشاد أوضح من المخرجة؛ إذ بدت انفعالاته منذ البداية سابقة لتطوّر الأحداث، ولم تتماشى معها تدريجيًا كما هو مطلوب دراميًا، بحيث تتصاعد حتى ذروة الأحداث دون أن تسبقها.
وبالرغم من بعض المشاكل التقنية والإخراجية، فقد نجح الفيلم في مجمله في إيصال رسالة نبيلة، لعلّها تُوقظ ضمير العالم الميّت. ونأمل أن تكون دماء المسعفين زينو والمدهون، اللذين غدر بهما جيش الصهاينة، سِقيا لشجرة الحرّية، وأن يكون ارتقاء الشهيدة الطفلة هند رجب – التي لم تشفع لها سنواتها الست لتنجو من وحشية الجيش المجرم – جرسًا يوقظ الضمير الميّت. وإن لم يستيقظ، فسيظلّ صوت هند رجب كابوسًا يؤرّقه.
يبقى أن نؤكّد أنّ استخدام الصوت الحقيقي لهند رجب، في المحادثات التي دارت معها قبل استشهادها، كان عاملًا أساسيًا في قوة تأثير الفيلم، حيث نجحت المخرجة في “تضفيره” مع أصوات الممثلين. ولا بدّ من القول إنّها قراءة أوليّة لهذا الفيلم المؤلم، الذي يستحق المشاهدة مرّة أخرى.

التعليقات