سمعت الرئيس الأمريكي ترمب خلال جولته الخليجية يتحدث بأسى شديد عن أن الحرب الروسية الأوكرانية أودت بحياة ألاف الجنود، مؤكدا أنه رجل سلام يكره الحروب، ولكن لم يعرب عن شعوره عن قتل أكثر من 52 ألف فلسطيني في غزة،ولم يطلب بوقف القتال هناك، على الرغم من أن الزعماء العرب الذين التقاهم طالبوا بذلك، وبعد تصريحات غاضبة ومتأخرة من بعض القادة الأوربيين حول هذه المأساة، اتسعت دائرة السؤال قليلا: وماذا عن قادة العالم الحر الآخرين؟ وأين صوت الكتل والنخب الغربية: الأحزاب والجمعيات والنقابات والكتاب وأساتذة الجامعات وغيرهم، والذين لديهم حرية التعبير والحركة أكثر من بقية شعوب العالم، ويقدمون أنفسهم على أنهم حراس الحرية وحقوق الإنسان؟! ولماذا التقاعس الدولي عن وقف هذه الإبادة الجماعية؟
هل هم أسرى السردية الصهيونية، أم أننا نحن العرب الذين قصرنا وتأخرنا في توصيل الرواية الحقيقة لما يحدث؟.. أيا كان السبب، فالشاهد هو أنه إذا كان هذا حال من عاصروا هذه الجريمة التي ترتكب على الهواء مباشرة، فكيف سيكون حال الأجيال القادمة، حينما تختفي أثار الجريمة وأدلتها، لتتكرر الإبادة مرة أخرى، وهذا أمر وارد بقوة لأن المحتل لديه خطط وتصورات توراتية ويعلن جهارا نهارا امتداد خريطته في المنطقة ورغبته في السيطرة عليها سواء عسكريا كما هو الحال في فلسطين ولبنان وسوريا، او بشكل غير مباشر فيما يسمه تغيير خريطة الشرق الأوسط ليكون هو القوة المهيمنة فيها. وحتى لو أوقفت التحركات الدولية التي ظهرت "بعد خراب مالطا" أوغزة، هذه الإبادة الجماعية فما الذي يمنع تكرارها؟
اعتقد ان الذي يمنع تكرار هذه المأساة، أمران: الأول توثيق جريمة الإبادة الجماعية والعمل على إبقائها حية في ضمير العالم ليس فقط على غرار ما فعله اليهود بشأن الهولوكوست، الذين بالغوا في الترويج لها وتضخيمها وأصدروا قوانين تعاقب من يشكك في عدد ضحاياها، وإنما نريد ان تكون دعوتنا إنسانية عامة لا تقتصر على حماية جماعة بعينها كما فعل اليهود وإنما لحماية أي عرق او دين او شعب من التعرض لمثل هذه الإبادة؟ لأن السيناريو الذي اتبعه اليهود قد نجح في منع تكرار المحرقة ضدهم ولكن لم يمنع تكرارها ضد غيرهم. والعجيب هنا أن الذين عانوا من هذه الجريمة هم أنفسهم الذين ارتكبوها في حق الفلسطينيين.
والأكثر عجبا ان المحرقة التي لم يراها أحد، لاتزال تنال الاهتمام العالمي ويستمر إحياء ذكراها منذ اكثر من نصف قرن، في حين ان محرقة غزة تتم على مرأي ومسمع العالم اجمع ولكن حتى اليوم لم تتبلور جهة معينة لتوثيقها بشكل مؤسسي لتكون معلما يذكر العالم بها. كنا نتوقع ان تسارع هيئات عربية وإسلامية خلال الهدنة التي تمت بغزة لتوثيق هذه الإبادة وتسجيل شهادات حية عنها، فالضمير العربي يتساءل:كم مؤسسة إعلامية او نقابة صحفية أو هيئة حقوقية دشنت متحفا لتوثيق الإبادة الجماعية؟ كم فيلم وثائقي عربي تم إنتاجه عنها؟ بل أن الفيلم الوثائقي الذي يكاد أن يكون يتيما: "ضع روحك على يدك وامش" كان لمخرجة إيرانية (سبيده فارسي) وقد قتلت إسرائيل بطلته المصورة الفلسطينية فاطمة حسونة مع عشرة من أفراد أسرتها فور علمها بأنه سيعرض في مهرجان كان السينمائي 2025. والفيلم عرض بالفعل في المهرجان بينما غيب التوحش الصهيوني بطلته فاطمة، التي كانت تنقل جانبا من المأساة بغزة أثناء الحرب.
ذات يوم كتبت فاطمة على حسابها في "فيسبوك": "إذا متُّ، أريد موتًا صاخبًا. لا أريد أن أكون مجرد خبر عاجل، أو مجرد رقم في مجموعة، أريد موتًا يسمعه العالم، وأثرًا يبقى عبر الزمن، وصورة خالدة لا يمحى أثرها بمرور الزمان أو المكان" وبالفعل كان استشهادها صاخبا وسمع العالم موتها فقد كرمتها إدارة مهرجان "كان" وشهد حفل افتتاحه توقيع 380 فنانًا عالميًا على رسالة مفتوحة، أدانوا من خلالها "الصمت حيال الإبادة الجماعية التي ترتكب في غزة" واليوم اختتم مهرجان "كان" ولكن لا أحد يعلم متى تختتم هذه الإبادة الجما عية؟! بل نخشى أن تصبح غزة كلها "في خبر كان"!
التعليقات