أتابع من بعيد لبعيد لأننى مازلت فى مدينة (كان)، ردود الفعل السعيدة والمبهجة بالفيلم المصرى (رفعت عينى للسماء)، الذى انتزع مناصفة جائزة (العين الذهبية) لأفضل فيلم وثائقى تسجيلى عرض داخل مهرجان (كان 77) فى مختلف المسابقات، حيث تنافس مع 22 فيلما شاركت فى كل الفعاليات، وبعضها أفلام لكبار المخرجين مثل أوليفر ستون، ومن هنا تأتى أهمية الجائزة، التى تعلو قيمتها الأدبية على الكثير من الجوائز النوعية.
على الجانب الآخر، البعض ربما بحسن نية- مشيها حسن نية- التى هى دائما الطريق السريع إلى الجحيم، يسعى للتقليل من حجم الجائزة وأهميتها، بحجة أنها لا تمثل أى قيمة، ولا أدرى ما هو معيار القيمة الآن، رغم أن الجائزة، قطعا، تعنى الكثير، حتى لو كانت موازية للجوائز الرسمية، إلا أنها، وللعام التاسع على التوالى، صارت تحمل أهمية عند كل من يتوج بها.
هناك أيضا من يراه فيلما عاديا أو ينقصه الكثير، من حق كل إنسان أن يدلى بدلوه، فقط عليه أن يشاهد الفيلم أولا، ثم يقبله أو يرفضه، لا يجوز مصادرة أذواق الناس، ننتظر عرض الفيلم قريبا، لأن من شاهدوه حتى الآن عدد قليل جدا من المصريين، والمنطقى، كما يحدث، أو من المفروض أن يكون قد حدث بالفعل بمجرد الإعلان عن الجائزة، أن يتلقى المخرجان ندى رياض وأيمن الأمير أكثر من دعوة، لعرض الفيلم فى احتفالية خاصة، ليصبح الفيلم متاحا للجميع، وفى هذه الحالة يصبح الحكم بعد المشاهدة.
علينا الآن أن نفخر بجائزة نتوق إليها منذ زمن، ربما نشر البعض معلومات خاطئة، لأننا لم نتعود أن نراجع المعلومة بأنها أول جائزة مصرية فى مهرجان (كان)، وهذا قطعا غير حقيقى، لأننا قبل ثلاثة أعوام اقتنصنا الجائزة الذهبية لأسبوع النقاد عن فيلم (ريش) لعمر زهيرى، كما أننا نتذكر الجائزة (التكريمية) التى حصل عليها يوسف شاهين فى اليوبيل الذهبى لمهرجان كان 50 عاما على انطلاقه، سنة 1997، ومن المشاركات القريبة لنا فى (كان) فيلم (اشتباك) فى قسم (نظرة ما) للمخرج محمد دياب، وبعدها (يوم الدين) فى (المسابقة الرسمية) للمخرج أبوبكر شوقى، لكننا لم نحصل على الجائزة.
تستطيع مثلا أن تقول إن هذه هى المرة الأولى التى تحصد فيها مصر جائزة عن فيلم تسجيلى طويل يشارك فى (كان)، ستكتشف أن كل هذه الأفلام بما فيها (اشتباك) بعيدة عن السياق العام للإنتاج التقليدى المصرى، أفلام متعددة فى جهات الإنتاج، تعبر عن مخرجيها أكثر مما تنطق بلسان حال نجومها.
كنت أول من أشاد بفيلم (رفعت عينى للسما) فى تلك المساحة بعد عرضه بأقل من 24 ساعة، رأيت حالة إبداعية تنضح بها الشاشة، العمل الفنى يحمل رسالة اجتماعية يتبناها بكل جماليات السينما لكى يراها العالم.
الشريط اقتنص لمحة من قلب قلب الصعيد، التى نطلق عليها (عروس الصعيد) محافظة المنيا، هى العروس، لأنها وثقت مصر على مر العصور، الفرعونية والرومانية واليونانية والقبطية والإسلامية، وستجد الجدران تنطق بهذا التتابع الزمنى.
اختار المخرجان ندى رياض وأيمن الأمير قرية (البرشا)، وتحديدا فرقة من الهواة مجموعة رائعة من الفتيات الموهوبات تقدم عروضها فى الشوارع، بإمكانيات محدودة تتبنى قضايا شائكة، نعيشها ونكتوى بنارها على أرض المحروسة، بين الحين والآخر تدخل الدراما طرفا فى التعبير، وتقدم لنا أعمالا درامية يتباين مستواها وحجم تأثيرها، أرى أن التعبير بالوثيقة أقوى وأمضى تأثيرا فى هذه الحالة من الدراما، لأنه يدخل العمق، فهم لا يلعبون أدوارا مكتوبة على الورق، لكننا نرى فرقة (بانوراما البرشا)، بكل أحلامها المشروعة وأيضا مخاوفها وكوابيسها، وستكتشف أنهم بالإرادة صنعوا اسمهم، الحضور الذى حققوه مؤخرا بعد العرض فى (كان) هى مكافأة مستحقة لرحلة طويلة.
هناك الكثير مما نخشى أن نقوله أو نعلنه، التحرش مثلا ظاهرة فى العالم، لكنها بحاجة إلى جرأة على البوح، الفرقة المسرحية امتلكت القدرة على أن تقول، رغم أن هناك غضبا لا يمكن إنكاره صاحب وجودها فى الشارع، الفرقة فى البداية تلقت الحجارة من عدد من رجال وشباب القرية، وهم يتعجبون، كيف يشاهدون فتاة تمثل وتغنى فى الشارع، المفروض ألا تغادر بيتها، أتصور أن من ألقوا الحجارة قبل سنوات عليهم الآن أن يطوقوا أعناق الفرقة بالورود.
الحلم أن تنقل من قرية (البرشا) إلى شاطئ الريفييرا صار هو الواقع.
فى مصر مواهب كثيرة، لأن المحروسة بطبعها تمتلك (جينات) الإبداع فقط تنتظر من يلقى الضوء على الموهوبين وقبل ذلك يحفزهم على الإبداع والبوح.
فقط أتمنى أن نتعلم كيف نفرح، لأن البعض منا صار متخصصا فى سرقة الفرحة من العيون والقلوب.
أتصور احتفاء من وزيرة الثقافة، الدكتورة نيفين الكيلانى، بهذا الفيلم وبفرقة بانوراما برشا وأن نشاهدهم قريبا على مسرح دار الأوبرا المصرية، لتعلن الدولة رسميا أنها تدعم أصحاب الموهبة خاصة عندما نقرأ فى كل الصحف العالم أن فيلما مصريا اقتنص جائزة (العين الذهبية) بفريق من الهواة الموهوبين.
(رفعت عينى للسما) ترنيمة من العهد القديم تعنى أن تستجير بالله العلى القدير، وهذا الفيلم رفع فى (كان) هاماتنا للسماء، ولو كره سارقو الفرحة!!.
التعليقات