لم تكن العلاقة جيدة بين الزعيم سعد زغلول وأمير الشعراء أحمد شوقي في بداية الأمر، فقد كانت هناك جفوة بينهما، ربما بسبب خلافات الزعيم مع القصر. ولكن تقدير كلٍّ من الرجلين للآخر لم يتأثر بهذه الجفوة في يوم من الأيام. بل إن كلا منهما كان يطوي صدره على ودٍّ كامن للآخر، تحول دون إظهاره قسوة الظروف.
ثم كان أول لقاء لشوقي بسعد باشا مؤثرا، وكان عن طريق صديق مشترك هو عبدالرحمن الجديلي (سكرتير سعد زغلول). يقول شوقي: هو الذي مهَّد له، وتبادلنا فيه ذكريات عزيزة، وذكرنا أصدقاءنا، ونكات عبدالكريم سليمان، وحفني ناصف، واجتماعات الأميرة نازلي هانم، وقاسم أمين، واستطاب سعد باشا المجلس، واستزدتُ أنا من حديثه. وقد طلب مني ترشيح نفسي لمجلس الشيوخ عن دائرة سينا سنة 1924، وقد اختارها الباشا لأنها مهبط الديانات ومسرى الوحي، ولأنها دائرة لا تحتاج إلى نضال حزبي، وفعلا فزت بالتزكية عن هذه الدائرة".
يقول د. علي البطل في دراسته بعدد مجلة فصول الخاص بشوقي عام 1982:
"وكان فؤاد بعد أن فرض عليه دستور 1923 لا يستطيع أن يجاهر الزعامة الشعبية المصرية بالعداء، فأخذ أحمد شوقي يكتب قصائده المشهورة في تمجيد سعد زغلول الذي طالما هجاه من قبل، وكان يضمر له كراهية عميقة لا يفصح عنها إلا بين أصدقائه الخلص، في مجالسه الشديدة الخصوصية. فقد كانت عواطفه الحقيقية دائما مع القصر الذي ولد ببابه، ويمثله الآن الملك فؤاد بن إسماعيل".
وقد حضر سعد حفل زفاف علي ابن شوقي، وأجَّل البرلمان ساعة كاملة ليحضر الحفل، وهذا شيء لا نظير له في تاريخ البرلمانات.
وبعد أن خرج سعد، قال شوقي: حقًّا أنه لزعيم حائز لكل صفات الزعامة. قيل له: وما صفاتها؟ قال: أن يكون الزعيم على بسطة من العلم والجسم، قويًّا على نفسه، جريئًا في الحق، خبيرًا بمختلف الشئون السياسية والقانونية، قويًّا وليس بقاس، رحيمًا وليس بضعيف، خطيبًا قوي الحنجرة، حسن البيان والإلقاء، يقدر الكبير من أعوانه، ولا يجرح الصغير. وقبل ذلك أن يكون حسن الوجه، فلم يرسل الله نبيًّا قبيح الخلقة قط.
يقول شوقي عن هذه الزيارة: "في أول يونيو من عام 1926 كان يوم زفاف نجلي الأكبر علي على صاحبة الصون كريمة المرحوم يحيى بك علمي، ودعيت سعد زغلول باشا لحضور حفلة الفرح، وحرص على تلبية الدعوة، ولكنه خوفًا من زحام المدعوين الكثيرين، وخوفًا على نفسه من برد الليل، رأى أن يلبي الدعوة في الخامسة، حتى يتسنى له أن ينصرف قبل الزحام، وقبل برد المساء، وفعلا كان ذلك، وأقبل سعد باشا، وكنت في استقباله على باب "كرمة ابن هانئ" بالجيزة، وجلستُ بجواره، في غرفة تطل على النيل، وتجاذبنا أطراف الحديث، وأُخذت الصور التذكارية، وقال سكرتير سعد باشا، عبدالرحمن الجديلي: هذه صورة الخالدَيْن.
فأشار دولتُه إليَّ وقال: الخلود هنا".
وبعد أحداث ثورة 1919 كتب شوقي دعاءً ردَّدته الجموع عقب صلاة الجمعة من يوم 17 رمضان سنة 1338 ه الموافق 4 يونيو سنة 1920 م، وارتفعت به أصوات المسلمين من كل مسجد في كل بلد من بلاد القُطر تهتف بهذا الدعاء الحار، وملء القلوب أمل، وملء الأنفاس توسل ورجاء. وكان الوفد المصري (برئاسة سعد زغلول) وقتها في مؤتمر "فرساي" بفرنسا للتفاوض حول استقلال البلاد، ثم تلقى دعوة إلى المفاوضة مع الإنجليز في عاصمة بلادهم، وكتب شوقي دعاءه الذي يقول فيه:
"اللهم إن الملأ (أشراف الناس) منَّا ومنهم قد تداعوا (اجتمعوا) إلى الخطة الفاضلة، والكلمة الفاصلة، في قضيتنا العادلة، فآتنا اللهم حقوقنا كاملة، واجعل وفدنا في دارهم هو وفدك، وجندنا الأعزل إلا من الحق جندك، وقلِّده اللهم التوفيق والتسديد، واعصمه في ركنك الشديد. أقم نوَّابنا المقام المحمود، وظللهم بظلك الممدود، وكن أنت الوكيل عنا توكيلا غير محدود، سبحانك لا يحد لك كرم ولا جود، ويرد إليك الأمر كله، وأمرك غير مرود، واجعل القوم محالفينا ولا تجعلهم مخالفينا، واحمل أهل الرأي فيهم على رأيك فينا. اللهم تاجنا منك نطلبُه، وعرَشنا إليك نخطبُه، واستقلالَنا التام بك نستوجبُه؛ فقَلدنا زَمامنَا، وولِّنا أحكامنا، واجعل الحق إمامنا، وتمِّمْ لنا الفرح، بالتي ما بعدها مقَترح، ولا وراءَها مُطَّرح، ولا تجعلنا اللهمَ باغين ولا عادين، واكتبنا في الأرض من المصلحين غير المفسدين فيها ولا الضالين.. آمين".
وفي كتاب "وطنية شوقي" لأحمد محمد الحوفي، فصلٌ بعنوان "إشادة بثورة مصر 1919"، (ص 168)، وفيه يؤكد الباحث إشادة شوقي بسعد زغلول حارس الدستور في مهده يعاونه الشيوخ والفتية، ويشبه الدستور الوليد بعيسى، ويشبه سعدًا حاميه بيوسف النجار، ويقول:
وَلَدَ الثَورَةَ سَعدٌ حُرَّةً ** بِحَياتَي ماجِدٍ حُرٍّ نَماها ما تَمَنّى غَيرُها نَسلاً وَمَن ** يَلِدِ الزَهراءَ يَزهَد في سِواها ومن ذكريات شوقي مع سعد باشا أنه التقاه في سويسرا، وكان يختار هدية الزفاف بأم المصريين (صفية هانم)، فاشترك الشاعر في الاختيار، ثم اختار الزعيم في الوقت نفسه ساعةً وأهداه لشوقي.
كان شوقي يتردد كثيرا على "بيت الأمة" ويصطحبُ معي ابنه حسين، وكان يجئ مغتبطًا، لأن شخصية سعد باشا كانت جذابة جدا، وكان يلاطف حسين دائما.
ومن أقوال شوقي عنه: إن سعد زغلول سوف لا يمضي، فسيظل خالدًا خلود الهرم، وخلود الزمن، وسيظل يعيش في قلب الوطن يشد من أزره في النوائب والمحن، وسوف تعود مواكبُه وسوف تخفق أعلامُه لتظلل أمتنا بالحب والوحدة والحرية.
أَوَ لَم يَكتُب لَها دُستورَها ** بِالدَمِ الحُرِّ وَيَرفَعُ مُنتَداها ويذكر شوقي أن سعد باشا في نهاية حياته كان قد ضاق (بالأراذل) الذين كانوا يحيطون به، ويضايقونه، وكان يتمنى أن يترك القاهرة، ويتخذ له مسكنًا في الجيزة على مقربة من بيتي.
ويتذكر شوقي لقاءه بسعد يوم الخميس الموافق 24 يوليو سنة 1924 وكان يوما مشهودا، فقد أقام أعضاء البرلمان احتفالا بكازينو "سان استفانو" بالإسكندرية لتكريم سعد زغلول بمناسبة نجاته من حادث الاعتداء عليه، حيث ترصَّده شابٌ وأطلق عليه النار، ولكن الله أنجى حياته، ووقى البلادَ شرَّ فتنةٍ كادت تعصف بين الأحزاب.
وتقدم علي الجارم يلقي قصيدة شوقي، فتدفق الصوت هازجا:
نجا وتماثل رُبَّانها ** ودق البشائرَ رُكبانُها فيا سعدُ جرحُك ساء الرجال ** فلا جُرحت فيك أوطانها فسرت النشوة إلى الحاضرين، نشوة ركاب السفينة التي اصطدمت بالأمواج المتلاطمة ثم تحوَّل عنها الأذى ونجت ونجا ربانُها فتعالتْ أنغام البشائر، وطبول الأفراح.
وقد ترأس سعد زغلول – شرفيًّا - احتفالية مبايعة شوقي أميرا للشعراء الذي كان في أواخر أبريل سنة 1927 وكان تحت رعاية الملك فؤاد الأول، وكانت القاهرة تموجُ بوفود الأقطار العربية لحضور حفلات التكريم، ولكن الزعيم أرسل رسالة – قرأها الجديلي - يقول فيها:
"يشرفني ويسرني أن أترأس هذا الاحتفال الجليل لتكريم شاعرنا العظيم أمير الشعراء. وكنت أودُّ أن أشارك حضراتكم في حضور هذا الاحتفال، ولكن ضعف صحتي حرمني من هذا الشرف الكبير، فأنبت عني حضرة صاحب المعالي محمد فتح الله بركات باشا، ليبلغ حضراتكم تحيتي ويهديكم وافر احترامي، ويخص بأطيب تحياتي حضرات وفود الأقطار العربية الذين جشَّموا أنفسهم مشقة السفر لمشاركتكم في هذا التكريم الكريم، فأرحب بقدومهم، وأرجو لهذا الاجتماع النبيل كل نجاح، وأن يكون وسيلة صالحة لتوثيق عرى المودة والإخاء بين أهل اللغة العربية الشريفة في سائر الأمصار.
سعد زغلول".
وكانت هناك بعض الغيرة لدى عدد من الشعراء والكتاب في مصر وخارجها جراء تنصيب شوقي أميرًا للشعراء، وعلى سبيل المثال تظهر جريدة "البلاغ" وفيها مقالة افتتاحية بقلم الأستاذ عباس محمود العقاد، وبها زعم أن الأمة التي تحتفل بشوقي لا تعرف معنى الكرامة، فدعاه سعد زغلول إليه وقال: كان يجب يا أستاذ أن تلاحظ أن الحفلة تحت رياستي. فقال العقاد: أنت لا تفهم الشعر يا باشا. فقال سعد: أنا لا أعرف الشعر، وإنما أعرف الذوق، وأحب أن تكون هذه آخر مرة تزور فيها بيت سعد زغلول.
ودعا سعد باشا الأستاذ عبدالقادر حمزة لزيارته ليقول: في صدر جريدة "البلاغ" تنشر مقالة في شتم أمير الشعراء أحمد شوقي؟ فقال الأستاذ عبدالقادر حمزة: الشعر للشعراء، وأنا أبيح لكل كاتب أن يكتب ما يشاء. وعند وفاة شوقي رثاه حمزة بمقالة افتتاحية في "البلاغ" قال فيها: "إن شوقي فتح لمصر ممالك لا تستطيع فتحها بالجيوش والأساطيل".
وعن وفاة سعد زغلول وكيف تلقَّي أمير الشعراء هذا الخبر قال: أثناء وجودنا في زَحلة (بلبنان) بلغنا نبأ رحيل الزعيم سعد زغلول الذي توفي في 27 أغسطس 1927، وكان يعاني من مرض الحمرة، وكانت وفاته متوقعة.
كنتُ أجوب تراس الفندق في عصبية واضحة، فقد علمت من أحد القادمين من مصر ضعف الأمل في شفائه، وانتشر الخبر بين نزلاء الفندق، وفي اليوم التالي وردت الصحف وفيها خبر سعد، فلم أتمالك نفسي، وصعدت إلى حجرتي وأنا أغمغم بكلمات كانت مطلع قصيدة رثاء سعد أقول فيها:
شَيَّعوا الشَمسَ وَمالوا بِضُحاها ** وَاِنحَنى الشَرقُ عَلَيها فَبَكاها لَيتَني في الرَكبِ لَمّا أَفَلَتْ ** يوشَعٌ هَمَّت فَنادى فَثَناها ثم قلتُ:
سائِلوا زَحلَةً عَن أَعراسِها ** هَل مَشى الناعي عَلَيها فَمَحاها عَطَّلَ المُصطافَ مِن سُمّارِهِ ** وَجَلا عَن ضِفَّةِ الوادي دُماها
التعليقات